جيل الوفاء بلا ضجيج
"لذكرى المناضل الكبير زهدي القدرة"
الحياة الجديدة- يحيى رباح
رحم الله الأخ والصديق العزيز زهدي القدرة الذي كان سفيراً لفلسطين في القاهرة لسنوات طويلة، وكان أمين سر حركة فتح في مصر لسنوات طويلة أيضاً، ومحافظاً لمحافظة رفح بعد أن أنهى مهمتة الدبلوماسية، ولا يعرف الكثيرون من أبناء أجيالنا الفلسطينية الراهنة ماذا يعني أن تكون سفيراً لفلسطين في تلك الأيام وفي بلد مركزي مثل مصر، أن تكون سفيراً لشعب كل أوضاعه طارئة من الألف إلى الياء، وكل حالاته عاصفة لا تستقر على حال، ولكن زهدي القدرة بهدوئه الخارق، وجهده الخارق، تحول في المسيرة الفلسطينية إلى اسم لامع، وحضور متميز، ووفاء منقطع النظير.
عرفته في بداية الستينيات عندما كان طالباً في الجامعة بالقاهرة، وتعرفت على نخبة من الشباب الفلسطيني اللامع أنذاك من بينهم محمد صبيح الذي ترأس اتحاد طلبة فلسطين ثم مندوبنا في الجامعة العربية وأمين سر المجلس الوطني ومساعد الأمين العام للجامعة العربية لشؤون فلسطين، كما تعرفت على سعيد كمال الذي أصبح سفيراً لفلسطين في مصر في لحظة خارقة من الصعوبة، وفي ذلك الوقت تعرفت على الإعلامي الكبير الذي كان من أشهر المعلقين السياسيين في إذاعة صوت العرب وهو فؤاد ياسين أبو صخر، كان ذلك قبل أن تعلن فتح انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في منتصف الستينيات، ولكن الآلاف من الشباب الفلسطيني كانوا يدرسون في الجامعات المصرية، من أسيوط إلى الإسكندرية، ولكن غالبيتهم كانوا يبحثون عن إجابة للسؤال، من نحن وماذا يجب أن نفعل، فانتسب الكثيرون إلى تكوينات سياسية بعضها كبيرة الحجم مثل حركة القوميين العرب التي أسسها الدكتور جورج حبش، وبعضهم انتمى إلى تكوينات صغيرة مثل منظمة طلائع الفداء التي أسسها المناضل الكبير صبحي ياسين، أو منظمة أبطال العودة، أو جبهة تحرير فلسطين، ولكن الغالبية العظمى من أولئك الشباب الدارسين في القاهرة كانوا موقنين بأنهم في انتظار شيء أكبر سوف يأتي، وهكذا جاءت فتح التي فتحت صدرها الواسع للسؤال الفلسطيني، وفي عام 1966 أرسلت فتح إلى القاهرة واحداً من أنبل وأهدأ وأوسع صدراً، وهو هايل عبد الحميد "أبو الهول" ليمثلها في القاهرة ويقود تنظيمها هناك، وكان زهدي القدرة من أبرز الفتحاويين الشباب الذين لمع نجمهم في تلك الفترة.
أحمل لزهدي القدرة في ذاكرتي صورة مضيئة جميلة، عن شخص يعمل بجهد خارق، يعمل بلا صخب ولا ضجيج ولا ادعاءات، كان يعرف آلاف التفاصيل والأسرار التي تنهد لها الجبال، فقد صعدت الثورة الفلسطينية وهيكلها الرسمي منظمة التحرير إلى حضور خارق، ولكن ذلك الحضور كان له أثمانه الباهظة، ضحايا وشهداء ومقايضات تجري في الكواليس أحياناً، وتجري في ميادين المعارك وفي حظائر المجازر المجنونة، ولكن زهدي القدرة كان من أعداء الثرثرة، ومن أعداء المباهاة، كان يعرف كيف يحتفظ بهدوئه، وأن يتشبث بالصمت الجميل لأن دوره كان أحياناً يصل إلى حد المستحيل.
كان زهدي القدرة من جيل الوفاء العميق، ومن جيل الإيمان القوي، ومن جيل الانضباط الصارم، يعرف ولكن لا يبوح، يتألم ولكن لا يصرخ، يتعرض لسوء الفهم الصارخ ولكنه لا يلوذ بالشكوى أو الصراخ، وعلى أكتاف جيله وصلت فلسطين المطرودة إلى الخارطة إلى هذا الحضور المبهر، ذلك الجيل الذي ذهب إلى فتح إلى الثورة إلى القيامة وهو يعرف بعمق أن المشوار ليس نزهة، وأن الطريق ليس سهلاً، وأن الأعداء كثيرون وكبار وأقوياء، ولكن الحلم كان أكبر من الصعوبات ألف ألف مرة.
تحية لذكراك، يا صديقي زهدي القدرة، ولروحك السلام، لقد أعطيت وأوفيت، ولقد رحلت مطمئناً بصمت ونبل، فعسى الله أن يقبلك في عباده وفي جنته، ولك السلام.
Yhya_rabahpress@yahoo.com