بعد حوالي الأسبوعين من اجتياح الضفة، وبعد اعتقال المئات من الفلسطينيين بمن فيهم الأسرى المحررون في صفقة "شاليت"، وتحويل اعداد متزايدة منهم إلى الاعتقال الإداري، وبعد مئات وربما آلاف المداهمات في كافة المحافظات الشمالية، وبعد أن نكلت القوات الاحتلالية بآلاف المواطنين أصبح واضحاً تمام الوضوح ان هذه الحملة أكبر وأوسع بما لا يقاس من مجرد البحث عن المختفين الثلاثة، وان المسألة على ما يبدو تتعلق بخطة إسرائيلية معدة مسبقاً بانتظار الخروج إلى حيز التنفيذ في "اللحظة" السياسية المناسبة. لقد نزلت هذه "اللحظة" على نتنياهو من السماء أو ربما تكون قد "أُنزلت عليه"!!! لكي يتمكن من استثمارها إلى أقصى حدود الاستثمار في اتجاهات مختلفة. أزعم هنا أن جوهر الخطة يتعلق "بحسم" موضوع الضفة قبل "الأوان" المفترض في حين ان الأشكال الاستثمارية الأُخرى لهذه الخطة على درجة كبيرة من الأهمية المباشرة من جهة وعلى درجة مماثلة من التنوع من جهة أخرى. يروج نتنياهو من خلال هذه العملية العسكرية الواسعة لمقولة خطر "الإرهاب" الذي "أتت" به حكومة التوافق الوطني كما يحاول تخفيف الضغط الدولي على حكومته التي بدأت تستشعر خطر انفراطها في مرحلة مبكرة إذا لم تتم إعادة "رصها" من جديد تحت وابل من الدعاية التخويفية التي تعيد الاصطفاف الشعبي في إسرائيل إلى مربع الإجماع "القومي" أو ما يحول دون انهيار هذه الحكومة. ويستثمر نتنياهو هذا الاجتياح "المبطن" للضفة الغربية لتفكيك منظومات المقاطعة الدولية وتشتيت أهدافها وآليات تأثيرها بتصوير الاستيطان والمستوطنين كمستهدفين من جماعات "التطرف" الفلسطيني وكضحايا لعمليات هذه الجماعات. وعلى المستوى الداخلي الملموس فإن نتنياهو من خلال هذه الحملة الواسعة قطع الطريق على قوى المعارضة الإسرائيلية من التوجه إلى استثمار هشاشة وضع الحكومة وبوادر تصدعها باتجاه المطالبات الاقتصادية والاجتماعية (وهو ما كان يوحي به يائير لبيد من على "يسار" نتنياهو من جهة وتهديدات كل من ليبرمان وبينيت بالانسحاب من الحكومة في حال "قدم" نتنياهو أية تنازلات ذات مغزى (من وجهة نظر اليمين المتطرف في إسرائيل) من جهة أخرى، دون أن ننسى طبعاً قطع الطريق الذي استهدفه نتنياهو على بقية الأوساط الحزبية الأخرى التي كانت تلوح بالذهاب إلى انتخابات مبكرة. كما أن واحداً من أهم استهدافات هذه العملية العسكرية الواسعة هو كسر إضراب المعتقلين الإداريين ومحاولة الاتفاق معهم على صيغة تخلص نتنياهو من العبء الذي شكله الإضراب على الحكومة الإسرائيلية وهو الأمر الذي يمكنه من وضع اتفاق تساومي في ظل هذه الأجواء المستعرة. أما بالعودة إلى الاستهداف الجوهري من هذه الحملة العسكرية الواسعة فهو على الأغلب وضع حد نهائي لكل فوضى "التوجهات" الإسرائيلية حول مسألة التعامل مع الضفة بغض النظر عن الفشل الذريع الذي منيت بها الحملة على صعيد البحث عن المفقودين الثلاثة حتى الآن. كان نتنياهو قد أطلق عدة بالونات اختبار بعدما وصلت العملية السياسية إلى الطريق المسدود الذي خطط له وأشرف على تنفيذه. من بين هذه البالونات لفت الانتباه على وجه خاص ذلك الذي تعلق "بالانسحاب" من طرف واحد والذي كان يشير بشكل واضح إلى قضم الأراضي الفلسطينية بما لا يقل عن 55% من الضفة بعد ضم المستوطنات الكبيرة وتكريس الوجود الإسرائيلي الأمني والسكاني في منطقة الأغوار والإبقاء على وحدة القدس وإخراجها من معادلة التسوية، إضافة إلى السيطرة الكاملة على الجزء المسمى بالمنطقة (ج) وتحويل المناطق كثيفة السكان إلى مناطق "تتمتع" بالحكم الذاتي المقلص والمسيطر عليه عسكرياً بالكامل والمتحكم به من زاوية "الحدود" دون أن يسمح حتى لمجرد طرح فكرة اللاجئين. هذه الفكرة لم ترق في حينه لا "للوسط" و"اليسار" ولا لليمين واليمين المتطرف كل من زاوية رؤياه الخاصة. فقد هدد لبيد بالانسحاب من الحكومة، ورفضت ليفني هذه الفكرة بالكامل، ولم يوافق عليها حزب العمل، في حين اعتبر بينيت أن لا سبيل غير سبيل الضم واعتبرها ليبرمان قاصرة على حل المشكلة الديمغرافية. لم يكن أمام نتنياهو والحالة هذه سوى أن ينتظر اللحظة المناسبة لتنفيذ هذه الخطة بصورة عملية ودون الإعلان عنها رسمياً بواسطة "إجراءات" مباشرة ولكنها متدرجة بما يحقق جوهرها ويكرسها كواقع "راسخ" يستحيل تجاوزه سواء تم التوافق على تسوية مستقبلية أم لم يتم. لذلك قلنا إن "فقدان" الفتية الثلاثة قد سقط على نتنياهو من السماء وتلقفه وهو يطير فرحاً. وأغلب الظن أن نتنياهو ليس على عجلة من أمره "لإيجاد" هؤلاء الفتية، بل وأغلب الظن أن هذا هو بالضبط ما يفسر تصريحاته في بداية الحملة من أن عملية البحث ستكون "معقدة" وطويلة!!؟؟ قضم أكبر مقدار من الأرض بأقل عدد من السكان وحشر الفلسطينيين في أصغر قدر من الأرض بأعلى عدد من السكان. هذه هي الخطة بدون إعلانات وبدون رتوش وبدون مناكفات واختلافات مع أحد!! إنها خطة الضم والقضم الصامت. |