'أبو مازن' ملاك السلام
بقلم عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية د. صائب عريقات
على مدى ثلاثة أعوام ونيف لم يكل المسؤولون الإسرائيليون عن ترداد عبارة أن الرئيس محمود عباس ليس شريكا في عملية السلام ويجب التخلص منه، ولا بد من إيجاد قيادة فلسطينية بدلا منه تؤمن بالسلام وثقافة السلام.
وزعت الرسائل الرسمية من إسرائيل لدول العالم بهذا الخصوص وكانت سياسات إسرائيل الاستيطانية وفرض الحقائق على الأرض وتهويد القدس، وتدمير خيار الدولتين هي السائدة على الأرض.
أصوات عربية وفي بعض الأحيان فلسطينية كانت تتحدث عن عجز أبو مازن وكبر سنه وعدم قدرته على القيادة وصناعة السلام.
كان يعمل بصمت وبعيدا عن الشعارات التي لا طائل منها، كان يقبض على الجمر، ويواصل ليله بنهاره وراء كل صغيرة وكبيرة في الشأن الفلسطيني في داخل الوطن وخارجه، وكان مجمع ومنبع الأفكار التي تخدم فلسطين وتؤسس لإعادة فلسطين على خرائط الجغرافيا، من هنا جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لاعتبار فلسطين دولة مراقب في عام 2012، وجاءت تواقيعه للانضمام للمواثيق والمعاهدات الدولية وعلى رأسها مواثيق جنيف والمحكمة الجنائية الدولية، وكان سعيه أمام مجلس الأمن، ومجلس حقوق الإنسان، ومشاركته في المظاهرات المناهضة للإرهاب في باريس وتونس.
أبو مازن كان مفتاحا للإستراتيجيات التي تعرض تحديد المحطات، فكان يساوم على الشكل ولكن لا يقبل حتى النقاش في المضمون.
يعرف تماما ما يدور داخليا وإقليميا ودوليا، ولكنه يتجاهل الكثير في سبيل الحفاظ على مضامين الثوابت الفلسطينية.
في الثمانين من العمر يواصل الترحال والسفر وفي ليال كثيرة يهجره النوم، لا لشيء إلا لما يراوده من أفكار لكيفية التحرك والعمل ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم.
في شهر أيار 2015، توجه إلى موسكو لمشاركة الرئيس بوتين في احتفالات الذكرى السبعين للانتصار على الفاشية والنازية، وبعدها ذهب إلى تونس للقاء الرئيس الصديق الباجي قايد السبسي قبيل سفره إلى واشنطن للقاء الرئيس أوباما، ثم كانت روما وكان الفاتيكان.
وقع الفاتيكان ودولة فلسطين اتفاقا تاريخيا اعترف الفاتيكان بمقتضاه بدولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، والقدس الشرقية عاصمة لها، كانت سعادة الرئيس أبو مازن غامرة وهو يستمع لشرح طاقم العمل الشباب من وزارة الخارجية ودائرة شؤون المفاوضات عن مضمون الاتفاق.
كانت سعادته كبيرة وهو يقرأ عن تقديس الراهبة الفلسطينية ماري غطاس ابنة القدس ومريم بواردي من الجليل، حدث تاريخي كبير لفلسطين ولشعب فلسطين، ولنساء فلسطين ولأسرى وأسيرات فلسطين، وللفلسطينيين الذين يعانون في مخيم اليرموك ويغرقون في مياه البحر المتوسط الهادرة وهم يحاولون الهرب من جحيم بلاد العرب إلى أمن دول أوروبا.
ثم كان اللقاء مع قداسة البابا فرانسيس، وعلم فلسطين يرفرف لأول مرة في التاريخ، خفاقا على سارية الفاتيكان، الأمر الذي أدمع عيون أبو مازن لهذا المشهد الخالد في ذاك اليوم الشاهد والمشهود.
في حزيران 2014، كان الرئيس أبو مازن في الفاتيكان لصلاة مشتركة مسيحية – إسلامية - يهودية، حيث قرأ القرآن لأول مرة في حاضرة الفاتيكان.
قداسة البابا فرانسيس، صديقا حميما للرئيس أبو مازن، وهذا اللقاء هو الرابع، حيث التقاه قبل ذلك مرتين في الفاتيكان ومرة في بيت لحم التي قام بزيارتها، ووقف متأملا وحزينا أمام جدار الفصل العنصري الذي عزل بيت لحم مدينة الميلاد عن مدن وقرى ومخيمات فلسطين وخاصة القدس عن العالم.
في اللقاء تحدث الرئيس عن الاستيطان والقدس والأسرى، وعملية السلام والمصالحة والأوضاع في العالم العربي، مؤكدا لقداسة البابا أمله بأن يكون الاتفاق بين دولة فلسطين والفاتيكان بمثابة البداية لاتفاقيات مماثلة مع مختلف الدول العربية.
في اليوم التالي كان الموعد لحدث تاريخي هو الإعلان عن قداسة الفلسطينيتين ماري غطاس ومريم بواردي.
المفاجأة الكبرى: البيان الذي صدر عن قداسة البابا فرانسيس بعد اللقاء مباشرة مع الرئيس أبو مازن حيث جاء البيان الذي أصدره الفاتيكان على لسان قداسة البابا 'إن الرئيس محمود عباس ملاك السلام'.
جاء الرد سريعاً من تل أبيب حيث قال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي إن التوقيع على الاتفاق والاعتراف بدولة فلسطين يضر بعملية السلام ويقوض فرص إطلاق المفاوضات.
إسرائيل تقول أبو مازن ليس شريكا في السلام وقداسة البابا يقول أبو مازن ( ملاك سلام) .
من سيصدق العالم ؟
كان الخبر الرئيسي في كل وكالات الأنباء ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة في جميع أرجاء العالم حتى محطة (فوكس نيوز الأمريكية اليمينية)'إنه يوم لعباس' وقالت نيويورك تايمز ماذا لدى نتنياهو ضيف الكونغرس؟ هل سيستمر الكونغرس الذي يدعمه ادلسون وسابان في تأييد نتنياهو إلى حين إلقاء خطاب جديد له أمام الكونغرس في أيلول القادم.
الصحف الإسرائيلية حملت عناوين رئيسية عن (ملاك السلام) والاتفاق والاعتراف بدولة فلسطين.
جميع وكالات الأنباء في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية تحمل صور صفحاتها الأولى صورة للرئيس عباس مع قداسة البابا فرانسيس وتحت الصورة عبارة 'ملاك السلام'.
هنيئا لفلسطين، فاعتراف الفاتيكان الذي يتبعه 2 بليون كاثوليكي، ليس كأي اعتراف، وقد يدخل التاريخ على أنه أم الاعترافات بدولة فلسطين.
هنيئاً لأسرى وأسيرات فلسطين والشعب الفلسطيني أيا كان مكان تواجده، ولعل ما حدث في الفاتيكان يومي 16 و17 أيار 2015، يشكل مسحا مقدسا لألام وعذابات الشعب الفلسطيني، كانت الراهبات والرهبان في حاضرة الفاتيكان يحملون علم فلسطين ويضعونه على أكتافهم.
الرئيس عباس بحلمه وعمله وحكمته ودماثته وبصبره ومنطقه وفوق هذا بإيمانه بقضية فلسطين وشعب فلسطين فهو لم يولد إلا لإعادة فلسطين إلى خارطة الجغرافيا، كان الشاهد والمبعوث الذي جاء من الأرض المقدسة، من أرض السلام من طريق السلام من القدس الأسيرة وبيت لحم المحاصرة، ليقول للعالم إنه زمن فلسطين، زمن العدالة، حيث أصبحت فلسطين رمزا للسلام والعدالة، وندعو الله أن تكون هذه الساعات القليلة بمثابة التنقية من الأحزان والآلام التي أصبحت رفيقا للشعب الفلسطيني منذ ما يزيد عن 67 عاما.