نبيل ، هذا النبيل !
د. طريف عاشور
بعد الزيارة التي قام بها افروف نيوفيتو رئيس حزب يمين الوسط الحاكم في قبرص ورئيس لجنة الشؤون الخارجية الأوروبية لمجلس النواب القبرصي مطلع هذا العام إلى دولة الكيان وتصريحاته الاستفزازية عندما قال " لم تعد قبرص ترى في إسرائيل دولة عدائية تفرض إرادتها على الفلسطينيين عنوة ، وإنما دولة صغيرة تكافح من أجل البقاء في مواجهة صعوبات وتحديات كبيرة، بل وزاد نيوفيتو للصحيفة الإسرائيلية جيروزالم بوست " أنه على مدى العقد المنصرم كانت دولته من أشد المنتقدين لإسرائيل في أوروبا جنبًا إلى جنب مع اليونان ، لكنها الآن أصبح لديها صورة أوضح عن إسرائيل ، فإسرائيل كما قال دولة فيها 8 ملايين نسمة يناضلون من أجل البقاء وعليهم مواجهة مئات الملايين من المسلمين والعرب بعضهم حتى لا يعترف بحق الدولة اليهودية في الوجود ، وتابع : إذًن من الطرف القوي ومن الطرف الضعيف؟ ومن الطرف الذي يكافح من أجل البقاء" .
تلا ذلك زيارة رئيس وزراء اليونان ووزير خارجيته لنتنياهو رئيس وزراء اسرائيل في القدس ، حيث استقلوا طائرة نتنياهو للسفر في صحبته الى نيقوسيا حيث انعقدت قمة ثلاثية بين اسرائيل واليونان وقبرص للتباحث في قضايا ذات اهتمام مشترك كالغاز الطبيعي والأمن والسياحة والعلاقات الاقتصادية ووقف تحرك اللاجئين ومكافحة الارهاب .
تصرفات وتصريحات المسؤولين في تلك الدولتين ، استفزت كل فلسطيني وعربي حر شريف ، لان في ذلك نسف للعلاقة التاريخية بين بلادهم وبين فلسطين فالكل يعلم مدى الدعم الذي قدمته فلسطين سياسيا لقضايا البلدين ، كذلك والمواقف والدعم القبرصي اليوناني التاريخي للقضية الفلسطينية ، فجاء فارس الدبلوماسية الفلسطينية ، الدكتور نبيل شعث ، العارف ببواطن العلاقات الدبلوماسية والاستراتيجيات الدولية ونقاط القوة والضعف في تركيبة العلاقات بين فلسطين وقبرص واليونان ، وبحكمته المعهودة ، كتب مقالا سياسيا رائعا رائدا ، وجهه الى الصحف القبرصية واليونانية ، فيه من العتب ما كان بمثابة الصدمة الكهربائية التي تعيد احياء القلب ، تذكر الناسين ماذا فعلت فلسطين لكم وبكم ، وكيف كانت مواقفكم التاريخية معنا كي يكون هذا الموقف الجديد .
اقتبس جزءا مما قاله لهم الدكتور نبيل : على مدى سبعين عاماً، تميزت العلاقة بين فلسطين وقبرص بالصداقة الوثيقة والتحالف السياسي ، فكلتاهما كانتا مستعمرتين بريطانيتين وكلتاهما عانتا من السيطرة البريطانية التي أنتجت وطنين منقسمين ، وقد وجد القبارصة أثناء نضالهم لتحرير وطنهم وتوحيد أرضهم حلفاء مخلصين لهم في العالم العربي وخاصة في مصر إذ وقف الرئيس جمال عبد الناصر إلى جانب رئيس الأساقفة مكاريوس القبرصي في النضال ضد الاحتلال البريطاني ، وبالنسبة للفلسطينيين كان هذان الزعيمان حليفين طبيعيين في النضال من أجل الحرية والاستقلال ، وقد انضمت كل من مصر وقبرص ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى حركة عدم الانحياز وتعاونت في بناء هذه الحركة مع أقطابها التاريخيين عبد الناصر ونهرو وتيتو وسوكارنو.
أذكر جيدًا والكلام لا زال للدكتور شعث ، رحلتي الأولى إلى نيقوسيا عام 1965، تلك المدينة الجميلة التي ذكّرتني بيافا المدينة الحبيبة الى قلبي والتي عشت فيها طفولتي ، وقد أيقظت رائحة الياسمين وزهر البرتقال في نفسي ذكريات بيتنا الذي فقدناه عند قيام إسرائيل عام 1948، تلك السنة التي أصبحنا فيها أنا وغالبية شعبي الفلسطيني لاجئين .
يضيف : أمّا نحن الفلسطينيون فقد أيدنا نضال قبرص ضد الاحتلال البريطاني من أجل الحرية والاستقلال وعارضنا تقسيم قبرص ، وأذكر عندما شغلت منصب وزير الخارجية الفلسطيني (1994-2005) أن تعليماتي من قائدي أبوعمار كانت واضحة : الوقوف بجانب الحكومة الشرعية في قبرص وعدم الاعتراف بالدولة الانفصالية في شمال قبرص ، خاصة داخل الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي حيث كان لدينا بعض التأثير المعنوي والسياسي.
كانت الصداقة متبادلة فقد اعترفت قبرص بدولة فلسطين عام 1988 بمجرد اعلانها في الجزائر، ودعمت نضالنا من أجل الاستقلال وسعينا لتحقيق السلام ، وبالمقابل دعمت فلسطين مساعي قبرص للحصول على استقلالها وسلامة أراضيها ووحدتها .
لدينا نحن الفلسطينيين علاقات متينة مع اليونان أيضًا، ويمكن ردّ جزء من أصول أجدادنا إلى جزيرة كريت اليونانية ، وترتبط الكنيسة الأرثوذكسية الفلسطينية بالكنيسة الأرثوذكسية اليونانية بعلاقات تاريخية وثيقة. صوتت اليونان ضد قرار التقسيم في الأمم المتحدة وقوفاً الى جانب فلسطين والدول العربية ، واستمرت مواقفها الداعمة لقضيتنا الفلسطينية بعد ذلك ولن ننسى أبدًا يوم استقبلتنا أثينا بحفاوة عام 1982 بعد 88 يومًا من القصف والحصار الإسرائيلي لمدينة بيروت مما أسفر عن قتل الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين ، وقد كان الرئيس أندرياس باباندريو على رأس الجمع الذي استقبل قائدنا الفذ الراحل ياسر عرفات لدى وصوله أثينا .
يتابع الدكتور شعث : عندما كنت وزيراً للخارجية عملت جاهدًا لدعم اليونان اقتصاديًا وسياسيًا في العالم العربي والإسلامي، وقد عكس الارتباط الوثيق بين الرئيس أندرياس باباندريو والرئيس الراحل ياسر عرفات ، وأيضًا الصداقة المتينة التي جمعت بيني وبين ابنه جورج، الذي أصبح وزيراً للخارجية اليونانية ومن ثم رئيساً لوزرائها ، عمق الصداقة الطويلة والقوية بين فلسطين واليونان. ولم تقتصر تلك العلاقة على حزب سياسي معيّن، بل كانت علاقة بين الشعوب: الشعب اليوناني والشعب القبرصي والشعب الفلسطيني وبعد انضمام اليونان وقبرص إلى الاتحاد الأوروبي، أصبحت الدولتان من أقرب حلفاء فلسطين داخل الاتحاد الأوروبي ، تدعمان سعينا للوصول إلى حل سياسي سلمي وتقفان إلى جانبنا كلما خرقت إسرائيل التزاماتها سواء عن طريق استمرارها في مصادرة الأراضي والمياه، أو تدمير قطاع غزة، أو إنكار حقنا في قيام دولتنا الفلسطينية فوق 22% من أرضنا. لقد تشبث حلفاؤنا اليونانيون والقبارصة بالمبادئ والالتزامات التي جمعتنا معًا لأكثر من 70 عامًا.
كان هذا المقال والذي اخذ بعدا كبيرا بالانتشار على صدر الصفحات الأولى في صحف تلك الدول بمثابة الصحوة ، فانتفضت الأحزاب والقيادات الأصيلة ، التي بادرت وعلى الفور بالاتصال مع الدكتور نبيل ودعوته كضيف شرف دبلوماسي كبير ، شعث افتتح زيارته لقبرص بلقاء رئيس الجمهورية حاملا رسالة من الرئيس محمود عباس ، تبعها اجتماعات منفصلة مع وزير الشؤون الخارجية يوانيس كاسوليدس ، ورئيس مجلس النواب باناكيس اوميروا ، ورئيس الاساقفة كذلك التقى مع رؤوساء الأحزاب الرئيسية الخمسة لبحث التطورات السياسية والعلاقات الحزبية وألقى محاضرة في جامعة نيقوسيا حول فلسطين وقبرص والسلام في الشرق الأوسط عقب لقاءه مع السفراء العرب على مادبة عشاء بحضور كبار الشخصيات القبرصية ، اضافة إلى لقاءه الجالية الفلسطينية في لارنكا وليماسول .
خلاصة ما اود قوله ، ان مقالا واحدا من عميد الدبلوماسية الفلسطينية ، حوّل بحيرة ساكنه من العلاقات التاريخية كادت ان تندثر ، الى شلال من الدعم واستحضار كل ما هو جميل ، يحدثنا الدكتور شعث عن مدى حفاوة الاستقبال ، وعن مدى اعتذار المسؤولين عن تصريحات بعضهم لجهلهم العلاقات التاريخية مع فلسطين ، وتأكيدهم على ان هذه العلاقات كانت وستبقى استراتيجية ، فمهما كان التقارب مع اسرائيل لن يكون ذلك بالمطلق على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية ، وترجم ذلك بتوقيع عدد من الاتفاقيات والحصول على عدد من الامتيازات لفلسطين خلال الزيارة وكأنه بمثابة اعتذار مؤدب .
شكرا للدكتور نبيل شعث ، وفريقه دائم العمل والجد والاجتهاد ، شكرا للخارجية الفلسطينية كذلك، لكن مطلوب متابعات يومية ، ان يعرف السفير انه على ثغر وطني فلسطيني يجب ان لا نؤتى منه ، كم نحن بحاجة الى تعميم تجربة هذا النبيل ، فوطننا يحتاج أكثر .