المصالحة في الضمير الوطني
المصالحة صميم الضرورة الوطنية
جريدة الحياة الجديدة
بقلم يحي رباح 17-2-2012
يوم الخميس أمس، كنت في ضيافة مركز آدم لحوار الحضارات, الذي يرأسه في غزة الأخ والصديق العزيز المهندس عماد الفالوجي, النائب والوزير السابق, والناشط السياسي المعروف, وكانت مهمتي شرح وجهة نظر حركة فتح في اتفاق الدوحة, والذي تم بموجبه التغلب على عقدة تشكيل حكومة الوحدة الوطنية.
الجديد والملفت للانتباه في لقائي في مركز آدم لحوار الحضارات, أن جمهور الحاضرين كان جميعه من الشباب, بما تعنيه كلمة شباب من معنى, شباب من الجنسين لا تتجاوز أعمارهم جميعا سنوات الدراسة الجامعية.
وهذا الشباب له همومه التي تراكمت خلال سنوات الانقسام, بحيث تراجعت هذه الحقوق تحت سقف الانقسام وتراشقاته الهابطة, ولم يعد أحد يهتم بهذه الهموم التي ستشكل حتما صورة المستقبل القريب، ولا أعرف كيف لقوى سياسية وفصائل أن تصدع رؤوس الناس بكل هذه الادعاءات, وكل هذه المقولات التي معظمها لا يمت إلى الواقع بصلة, بينما هموم هؤلاء الشباب تتراكم, ومشاكلهم تصل إلى حد الاستعصاء, ودروبهم نحو مستقبلهم يغلفها الضباب واليأس, بينما النخب السياسية تتصرف وكأنها في حل منها, ولا تتحمل بشأنها أدنى مسؤولية.
وعودة إلى جوهر اللقاء :
الذي كان جوهره اتفاق الدوحة, والأسئلة الكثيرة جدا المتعلقة به, ولكن الأسئلة من هؤلاء الشباب لا علاقة لها بالأسئلة التي تطرحها النخب السياسية، فلم أسمع من هؤلاء الشباب سؤالا فيما إذا كان اتفاق الدوحة الأخير مخالفاً أو مجافياً أو خارجاً عن الدستور والقانون, لأنه مترسب بشكل يقيني في الوعي الجمعي لهؤلاء الشباب, ان أفدح شيء وأخطر شيء مخالف للدستور والقانون والأخلاق والمبادئ الوطنية والحقائق الإيمانية, هو هذا الانقسام, لأن الانقسام بالإضافة إلى تداعياته المادية المجهضة لحياة الشعب الفلسطيني وأجياله, فهو عدوان ظالم ضد صورة شعبنا, وضد ميراثه النضالي, وضد حقوقه العادلة, وخيانة لدماء شهدائه، فكيف لشعب يقع تحت الاحتلال هو وأرضه وعناصر حياته أن يقع في حفرة هذا الانقسام؟ وكيف يقبل أي فلسطيني حقيقي أن يظلم شعبنا هذا الظلم الفادح من خلال استمرار هذا الانقسام.
أسئلة الشباب كثيرة, وواسعة وذات أبعاد متعددة تتعلق بمعارضي المصالحة بالداخل, من أين تنبع معارضتهم؟ وهل حجم مصالحهم الذاتية وصل إلى حد التشبث بالانقسام؟ ولماذا كل اتفاق نتوصل إليه, ونفرح به, ونزف البشرى لأنفسنا, لماذا لا ندعمه على الفور بخطوات عملية متلاحقة؟ ولماذا التنفيذ دائما يحتاج إلى أطوار أخرى وقوة دفع أخرى؟ وهل البطء في إجراءات التنفيذ تعطي للمعارضين وأعداء المصالحة فرصة لمراجعة النفس والعودة عن الخطأ, أم أن الجمود, واحتراق الوقت, يعطي لأعداء المصالحة قوة دفع جديدة وثقة بأنفسهم؟
هل بدأت المشاورات لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية؟ أم أن تشكيل الحكومة مرتبط بآليات أخرى, مثل آليات الانتخابات التي يجب أن تكون جاهزة عبر تجديد كشوف الناخبين, وضمان مشاركة المقدسيين في هذه الانتخابات, وصدور إعلان للجنة الانتخابات أنها أصبحت جاهزة؟
لماذا تكرر بعض الفصائل منظوماتها الكلامية القديمة عن المحاصصة؟ وهل تبحث هي الأخرى في الثوب الأبيض عن بقع سوداء تدعي أنها بقع دستورية وقانونية, وهل حقا يوجد في النظام الأساسي أي نص أو شبه نص يمنع الرئيس الفلسطيني من تولي رئاسة الحكومة أم أن الأمر كله مجرد مماحكات فارغة؟
عناقيد من الأسئلة ينثرها هؤلاء الشباب في مداخلاتهم التلقائية, وبحس نقدي عميق, تؤكد أن المصالحة تسكن في الضمير الوطني, وأن المصالحة مزروعة في صميم الضرورة الوطنية الملحة التي لا بديل عنها.
هؤلاء الشباب عقولهم أشبه بصحون الستلايت اللاقطة, لا تترك صغيرة ولا كبيرة, إنهم في قلب المعركة وفي قلب التجربة وفي عين العاصفة, فلا أحد أكثر من الشباب تأثرا بما يجري سلبا أو إيجابا, وهؤلاء الشباب هم عقدنا الحتمي مع المستقبل, وحين يصبح الطريق نحو المستقبل مليئا بالضباب والدخان والمخادعات, فإن الأسئلة تتكاثر مثل العناقيد, وبعض هذه الأسئلة طعمها مر جدا, فلا تدعوا الشباب يتجرع الحنظل, لأن هذا لن يمر بدون ثمن فادح, وخاصة أن ما يدعوه إليكم الشباب هو المصالحة, والمصالحة ليست عملية تدار بلا نهاية, بل هي هدف ممكن وضرورة ملحة.
لقد شعرت وأنا أحاور هؤلاء الشباب أن المستقبل الفلسطيني في أيد أمينة, فهؤلاء الشباب قد يتجاهلهم البعض أو يلتف عليهم أو يغرقهم في بحور من الشعارات المتلاطمة, ولكن دائما وأبدا فإن الشباب الفلسطيني الذي صنع الثورة الفلسطينية المعاصرة, وصنع الانتفاضات الباسلة, هو دائما يقف هناك عند مفارق الطرق التي يمر منها المستقبل, وحين يتبلور هذا المستقبل فإن هؤلاء الشباب سيكونون روحه المضيئة وسواعده القوية.