بروتوكول 79/2012ر
الرَّبوة في 18/2/2012
كلمة غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث
في النَّدوة حول:
"القضيَّة الفلسطينيَّة، وآفاق عمليَّة السَّلام"
في مركز "لقاء"_ 18/2/2012
تحيَّة مع المحبَّة والبَرَكة والدُّعاء
إن نسيتك يا قدس! يا فلسطين! تنسَني يميني ويلتصقُ لساني بحنكي... إن لم أذكركِ! إن لم أضع أورشليم، القدس، في مطلع فرحي... وفي كلِّ محاضرة، ومجتمع، واجتماع، ومؤتمر...
يا إخوتي! وأخواتي!
لكم الشكر الذين نظَّموا هذه النَّدوة! وبخاصَّةٍ الأب غابي هاشم صاحب الباع الكبير في المؤتمرات. وأهلاً وسهلاً بكم في مركز "لقاء"... ويسرُّني أن تكون بدايات النَّدوات فيه حول القضيَّة الفلسطينيَّة.
إنَّ كلامي عن فلسطين، هو حياتي ونفسي وقلبي ومشاعري، قبل أن يكون كلامًا... فقد أرادت العناية الإلهيَّة أن أكون خادمًا لبلد السَّيِّد المسيح، فلسطين الأرض المقدَّسة، والقدس بالذَّات على مدى ست وعشرين سنة (1974-2000) وكانت القدس اسمي! واسمي كان القدس! نائبًا بطريركيًّا في القدس الشريف... لقبٌ يرافق اسمي وكلَّ محاضرةٍ وندوةٍ ولقاءٍ وسفرةٍ وتحرُّكٍ واجتماعٍ وصلاة.
القضيَّة الفلسطينيَّة هي خيوط نسيج حياتي بخاصَّةٍ منذ خدمتي في القدس. وهذا مقطع من عظتي الأولى بعد تنصيبي مطرانًا في القدس (6/12/1981(
"أومن بالله... أومن بالإنسان. وسياستي ستكون سياسة الإنسان... أومن بالكنيسة، وسأعمل مع جميع الطوائف بتواضعٍ ومحبَّة لكي نكمل مسيرة الكنيسة في خدمة الإنسان في هذه الأرض المقدَّسة، دينيًّا وروحيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وهكذا أحمل بشرى الإنجيل والخير ليس فقط إلى المسيحيين، بل إلى إخوتي المسلمين واليهود والحجَّاج... وإلى كلِّ إنسان... من الواجب أن ألتزم بكم، بأرضكم بقضيَّتكم، بآلامكم، بمعاناتكم... وعلي أن أخدم قضيَّتكم العادلة... لكي يولد في هذه الأرض المقدَّسة، الإنسان الجديد، إنسان المستقبل، إنسان القيامة... من واجبي أن أخدم الجميع، الفقراء والمتألِّمين واللاجئين والمهجَّرين، والمسجونيني والمبعدين من أبناء بلدي، بكلِّ طوائفه وأديانه...".
وقد عالجتُ القضيَّة الفلسطينيَّة في أكثر رسائلي على مدى السَّنوات الأحدى عشر من خدمتي البطريركيَّة.
كما كانت القضيَّة الفلسطينيَّة موضوعًا أساسيًّا في اجتماعات سينودس الشرق الأوسط (ت1 2010)، وفي مداخلات البطاركة والمطارنة من كلِّ الكنائس.
1- مقاطع من رسالتي بمناسبة عيد الفطر السَّعيد إلى الملوك وأمراء ورؤساء الدُّول العربيَّة (آب 2011(
وهذه بعض المقاطع التي تُظهر محوريَّة القضيَّة الفلسطينيَّة في كلِّ البلاد العربيَّة.
"ومن منطلق إيماننا ومن منطلق مسؤوليَّتنا كبطريرك يحمل الجنسيَّة السُّوريَّة واللُّبنانيَّة والفلسطينيَّة والمصريَّة، وزعيم روحي لطائفة تميَّزت بالوقوف بصراحةٍ وعزمٍ وتصميمٍ إلى جانب قضايا العالم العربي وبخاصَّةٍ القضيَّة الفلسطينيَّة، نكتب هذه الرِّسالة بصراحةٍ وجرأة. ومن هذا المنطلق نسمح لذواتنا أن نجمع حصيلة الأمور والمشاكل التي برزت من خلال هذه "الثورات". وقد عبَّرنا عن ذلك في العديد من المقالات، والمقابلات التلفزيونيَّة والرَّسائل التي بعثنا بها إلى الملوك والرُّؤساء في العالم العربي، وإلى دول الاتحاد الأوروبي، وإلى أميركا وكندا وأميركا الجنوبيَّة وأوستراليا، وإلى كرادلة ومطارنة ورؤساء المجالس الأسقفيَّة في العالم الكاثوليكي المسيحي. وكان ذلك بمناسبة انعقاد السِّينودس الخاصّ من أجل الشرق الأوسط في شهر تشرين الأوَّل 2010".
"وهكذا نحقِّق نداء القرآن الكريم في الآية الكريمة: هلمُّوا إلى كلمةٍ سواء"(سورة آل عمران 3: 64). ونحقِّق دعوة وصلاة يسوع في الإنجيل المقدَّس "أن يكونوا واحدًا لكي يؤمن العالم" (يوحنَّا 17: 21")
"هذا هو البرنامج الواعد وهذا هو النظام الجديد، وهذا هو الشرق الأوسط الجديد، وهذا هو المستقبل الزاهر الذي يمكن للبلاد العربيَّة أن تحقِّقه متَّحدةً متضامنة. وهذه هي خريطة الطَّريق الحقيقيَّة لأجل تحقيق آمال الأجيال الشابَّة، وجميع المواطنين على اختلاف شرائحهم. وبخاصَّةٍ هذه خريطة الطَّريق لأجل تحقيق السَّلام العادل والدَّائم والشامل الذي يمهِّد للتطوُّر والسؤدُدْ والحرِّيَّة والكرامة لكلِّ شعوب المنطقة".
2- نداء السِّينودس لأجل الشرق الأوسط
يشجِّع النِّداء المسؤولين على السَّعي في سبيل السَّلام: " إنَّنا معكم في كلِّ الجهود التي تبذلونها من أجل تحقيق سلامٍ عادلٍ ودائمٍ في المنطقة كلِّها، والحدِّ من السِّباق إلى التسلُّح، ممَّا يؤدِّي إلى الأمن والازدهار الاقتصادي، فيتوقَّف نزيف الهجرة التي تُفرِغ بلداننا من قواها الحيَّة. إنَّ السَّلام هبةٌ ثمينةٌ من الله للنَّاس. قال السَّيِّد المسيح: "طوبى لصانعي السَّلام فإنَّهم أبناء الله يُدعَون" (متى 5: 9)"
ويتوجَّه النِّداء إلى الأسرة الدُّوليَّة بعباراتٍ واضحة قاطعة بشأن القضيَّة الفلسطينيَّة. إنَّ هذا المقطع من النِّداء يُعبِّر عن رؤية البابا والفاتيكان والبطاركة والمطارنة وعموم الكنيسة الكاثوليكيَّة تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة ودعمها لحقِّ الشعب الفلسطينيّ: " إنَّنا نناشد الأسرة الدُّوليَّة ولا سيَّما منظَّمة الأمم المتَّحدة، أن تعمل جادَّةً من أجل تحقيق السَّلام العادل في المنطقة، وذلك بتطبيق قرارات مجلس الأمن، وباتخاذ ما يلزم من إجراءاتٍ قانونيَّة، لإنهاء الاحتلال في مختلف الأراضي العربيَّة".
وهكذا يستطيع الشعب الفلسطيني أن يكون له وطنه السَّيِّد المستقلّ ليعيش فيه بكرامةٍ واستقرار. وتتمكَّن دولة إسرائيل من أن تنعم بالسَّلام والأمن داخل الحدود المعترف بها دوليًّا. وتجد مدينة القدس الصِّيغة العادلة للمحافظة على طابعها الخاص وعلى قداستها وتراثاتها الدِّينيَّة لكلٍّ من الأديان الثلاثة: اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام. كما نرجو أن يصير حلَّ الدولتَين واقعًا حقيقيًّا ولا يبقى مجرَّد حلم."
3- وفي رسالة الفصح المجيد للعام 2011، وهي بعنوان: "درب صليب العالم العربيّ إلى القيامة"، أقول
وحدةُ الصَّفِّ العربيّ
ويا ليت جامعة الدُّول العربيَّة ودول جامعة الدُّول الإسلاميَّة تجتمع لتعالج واقع الثورة في البلاد العربيَّة، فنضع معًا برنامجًا جديدًا لشرق أوسط عربيّ جديد، نضعه نحن وليس غيرنا، يضمن شروط العيش الكريم لمواطني هذا الشرق الأوسط العربيّ المسيحيّ الإسلاميّ، مهدِ الدِّيانات والحضارات.
إنَّ وحدة الصَّفِّ العربيّ شرطٌ هامٌّ جدًّا أمام هذه التطوُّرات الخطيرة، وهذه الثورات الجماعيَّة وهذه الانتفاضة.
إذا لم تعالج الدُّول العربيَّة مجتمعةً وبصوتٍ واحد هذه التطوُّرات المأساويَّة الدَّمويَّة بالفطنة والحنكة والحكمة والوعي والانفتاح والتصميم والوضوح والشفافيَّة والصَّراحة... فإنَّ المستقبل خطيرٌ جدًّا ومظلمٌ لنا كلِّنا. فلا بلد عربي بمنأى اليوم عن امتداد هذه الثورة إليه.
واليوم أكثر من ذي قبل، واليوم وليس غدًا، لا بدَّ من الوعي والمشورة والخطَّة الجماعيَّة العربيَّة المشتركة. اليوم لا بدَّ من رؤيةٍ مستقبليَّة عربيَّة إسلاميَّة مسيحيَّة واضحة، وواسعة الآفاق. وإلاَّ فإنَّ عالمنا العربي بمسيحيِّيه ومسلميه وبكلِّ طوائفه معرَّضٌ إلى التفكُّك والانقسام والشرذمة، بحيث يتفتَّت إلى دويلاتٍ طائفيَّة منعزلة متقوقعة متعادية متحاربة!
السَّلام مفتاح المستقبل
من جهةٍ أخرى علينا أن نشير إلى عاملٍ مهمٍّ جدًّا في تحقيق كلّ هذه المترجيَّات، وهو السَّلام. فلا يمكن للعالم العربي أن يُحقِّق آمال الشعوب العربيَّة وبخاصَّةٍ آمال الشباب في الحرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة، إذا لم يعمل بجدِّيَّةٍ وبالتعاون مع الغرب، على إحقاق السَّلام العادل والشامل والدَّائم في الأرض المقدَّسة، في فلسطين. وإنَّما تؤخذ الدُّنيا غلابًا! وبالوحدة والمحبَّة بين الدُّول العربيَّة تتحقَّق الغلبة. فالوحدة لا تُغلَب أبدًا! والمحبَّة لا تسقطُ أبدًا!
حلم: قمَّة عربيَّة روحيَّة مسيحيَّة _ إسلاميَّة
هل أكون ساذجًا أو حالماً أو مثاليًّا، إذا جرأتُ وطرحتُ فكرة ومشروع عقد قمَّة روحيَّة عربيَّة إسلاميَّة مسيحيَّة؟! إنَّها دعوةٌ إلى كلمةٍ سواء، إلى خطَّةٍ سواء، إلى إغناء وإنعاش عالمنا العربيّ بقيَم إيماننا المسيحيّ _ الإسلاميّ، لكي تكون لجميع مواطنينا الحياة وبوفرة! أضعُ هذه الفكرة وهذا الحلم في قلبِ وفكرِ وصلاةِ ودعاءِ وأحلامِ كلِّ مَن يقرأ هذه الرِّسالة! والله يُعطي أحلامنا أن تُثمر إيمانًا ورجاءً ومحبَّة!
4- ومن رسالة الميلاد 2006، وهي بعنوان: "السَّلام، والعيش المشترك والحضور المسيحي في الشرق الأوسط"
وها إننا نحمل فحوى هذه الرسالة بمناسبة عيد الميلاد السعيد إلى جميع ذوي النيّات الطيبة. وهي تنسجم مع رسائلنا الميلادية السابقة التي لم تخلُ واحدة منها، إلا وتكلَّمنا فيها عن أهمية الحضور المسيحي في الشرق العربي. هذا الحضور الفريد المهدَّد بأسف، بسبب تتابع الحروب والأزمات والنكبات على هذه المنطقة التي شهدت ميلاد المسيح رسول السلام، وهي مهد المسيحية.
إن همَّنا الأكبر من خلال رسائلنا السنوية كان ولا يزال: كيفية الحفاظ على حضور مسيحي حاضر وشاهد وخادم في مجتمعنا العربي ذي الأغلبية المسلمة.
سنعرض هذه الرسالة في عناصرها الثلاثة المترابطة: السلام. العيش المشترك. الحضور المسيحي في المنطقة. وباختصار كلّي نقول: إن الحضور المسيحي في المنطقة هو أساس العيش المشترك. هذا الحضور يذوب رويدًا رويدًا بسبب الهجرة التي تتبع كل حرب أو أزمة. ولأجل الحفاظ على العيش المشترك لا بدَّ من إحلال السلام الشامل والعادل والدائم في المنطقة.
السبب: الصراع الإسرائيلي-العربي
إننا نعتبر أن الأزمات والحروب والويلات في الشرق الأوسط، هي إفرازات ونتائج الصراع الإسرائيلي ـ العربي. ومن إفرازات هذا الصراع أيضًا وبلا شكّ، الحركات الأصولية على اختلافها. وكذلك الشقاق والنزاعات داخل العالم العربي؛ وكذلك تباطؤ التطور والازدهار. وكذلك نموُّ البغض والكراهية وفقدان الأمل، والإحباط لا بل القرف لدى الشباب، وهم يؤلفون ستين بالمئة من سكان الأقطار العربية.
وإذا كان السببُ هو الصراع الإسرائيلي-العربي فالوفاق المرجو بين العرب، وهو وحده الكفيل بإعادة السلام وإقرار العدل في فلسطين وفي الشرق الأوسط بأسره، يفترض موقفًا عربيًا موحّدًا، ثابتًا وفاعلاً وصريحًا، حول القضية الفلسطينية ولأجل حلّها. كما يفترض أيضًا موقفًا أميركيًا وأوروبيًا أيضًا صريحًا وثابتًا وموحَّدًا.
فالأمر الأكثر أهمية اليوم هو أن نتمكّن معًا من كسب معركة السلم والحرب معًا، معركة صادقة، في سبيل العدالة والأمن والاستقرار والنماء. هذا ما ننتظره وتصبو إليه الأجيال العربية الطالعة، المسيحية والإسلامية، وكل الأحزاب السياسية وجميع الرعايا، وأبناء وبنات شعوبنا.
أجل الوحدة العربية هي وحدها القادرة على فرض حل سلميّ على إسرائيل، على الولايات المتحدة الأميركية وعلى أوروبا وعلى الأمم المتحدة.
وحدة العالم العربي
هدم الجسور وبناء الجدران: هذا ما نراه اليوم في شرقنا العزيز. والحال أن العكس هو ما نحتاج إليه، أي بناء الجسور في عالم منقسم، لكي يتمكّن الناس من التلاقي؛ وهدم الجدران التي تفصل فيما بينهم.
هذه هي الضمانة الحقيقية لحياة لائقة بالبشر على هذه الأرض، في عالمنا العربي، بدل ما نراه حولنا: نيران تشتعل وأسلحة تزرع الرعب والموت وتسبّب الآلام الجمّة، كما هو الحال في فلسطين والعراق ولبنان.
بعد الحرب على لبنان نجد ذواتنا أمام منعطف تاريخي خطير جدًا ومنذر بويلات لا تحصى. ولذا على العرب والإسرائيليين أن يتَّخذوا كلٌّ من جهته العِبرَ الحقيقية من هذه الحرب الحاقدة والمدمِّرة والدامية في لبنان، والتي فاقت ضراوتها باقي الحروب في المنطقة.
ونحن نعتبر أن السياسة التي تقوم على ممارسة الضغوط المختلفة على هذه أو تلك من الدول العربية، أو سواها، إيران وسوريا... والأحكام القاسية، والتنكيل بحماس أو حزب الله، أو بالأصولية والمتطرفين الإسلاميين، إنما هو هروبٌ إلى الأمام، وسياسة النعامة وتنصُّل من تحمّل المسؤولية الحقيقية، التي تفرض على الجميع التصميم الصريح والسعيَ الصادق وراء توافق واتفاق حقيقيَّين في إحلال السلام وتحقيق العدالة في الأرض المقدسة التي أصبحت، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، أرض الحرب وأصل كل الصراعات والحروب في المنطقة وفي العالم.
إننا، نحن الكنيسة العربية، وكنيسة العرب وكنيسة الإسلام، نتوجّه بعزمٍ وتصميم إلى العرب إخواننا وإلى الدول الأوروبية وإلى أميركا، ونحذِّر الجميع تحذيرًا شديدًا، مشيرين إلى مغبة التسويف إلى ما لا نهاية له، في حل القضية الفلسطينية، الذي يعني قطع الأمل من حلّها.
هجرة المسيحيين
إن بين النتائج الأكثر خطورة في الصراع العربي الإسرائيلي، وبسبب عدم إيجاد حلّ عادل وثابت له، هي الهجرة: هجرة الأدمغة، والمفكّرين، والشباب، والمسلمين المعتدلين، وبنوع خاص هجرة المسيحيين. وهذا كلّه يضعف مستقبل الحرية والديمقراطية والانفتاح في المجتمع العربي.
والخطر الكبير هو بخاصة في هجرة المسيحيين، التي لها عواقب خطيرة وأليمة وجسيمة. فإن هجرة المسيحيين التي تطال كل رعايانا من كل طوائفنا المسيحية في العالم العربي، بخاصة من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر والعراق، تعني تفريغ الشرق من المسيحيين.
إن هذه الهجرة تعني رويدًا رويدًا فقدان التعددية والتنوع في العالم العربي وتلاشي طاقات الحوار المسيحي الإسلامي، الذي هو حوار بشري، وحوار ديني ولكنّه حوار حياتي، يومي، مجتمعي. حوار حضاري وثقافي وإنساني ووجداني، يتجلَّى في كل مظاهر نسيج الحياة اليومية في المجتمعات العربية.
إن هجرة المسيحيين تشكّل نزيفًا مستمرًا. وتعني أن المجتمع العربي سيصبح مجتمعًا ذا لون واحد، مجتمعاً عربياً ـ إسلامياً. وهكذا يصبح الشرق الأوسط مجتمعًا عربيًا-إسلاميًا بإزاء مجتمعٍ أوروبي - مسيحي (ولو أنه مجتمع علماني وربما غير مؤمن). وإذا تم ذلك وأُفرغ الشرق من المسيحيين، فتصبح كل فرصة ملائمة لقيام صراع الحضارات والثقافات والديانات. وتصبح الفرص مؤهلة لصراع مدمِّر بين الشرق العربي ـ المسلم، و"الغرب ـ المسيحي"، صراع سيكون صراعًا مسيحيًا-إسلاميًا، صراع المسيحية والإسلام! وبئس المصير!
الثقة بين الشرق والغرب
أمام مشهد الحرب على لبنان، وأمام ما نشهده ونشاهده يوميًا في وسائل الإعلام من نماء الأصولية، وتوتّر في العلاقات البشرية، العرقية والدينية والمجتمعية، نشعر أن هناك نقصًا كبيرًا في الثقة بين الشرق والغرب، بين البلاد العربية ذات الأغلبية المسلمة، والغرب، وأميركا.
وفي هذا الجو تتعالى أصوات تدعو إلى شرق أوسط جديد، في خضمّ الحرب والنزاعات والتجاوزات. ولكننا نعلم علم اليقين أن الشرق الأوسط الجديد لا يتحقَّق إلا من خلال حلّ القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي. ويُخطئ الغرب إذا تصوّر زعماءُ أوروبا وأميركا أن قسمة العالم العربي هو المناخ لولادة هذا الشرق الأوسط الجديد.
ولكننا من منطلق إيماننا أولاً وخبرتنا الروحية والاجتماعية والوطنية ثانياً، نحذِّر دعاة هذه التصورات ومروِّجيها، ونقول بكل وضوح: لا شرق أوسط جديد في عالم عربي منقسم! ومن يراهن على تقسيم العالم العربي إلى "جزر طائفية" وكانتونات لكي يولد الشرق الأوسط الجديد، فإنه خاسر لا محالة. إذ لا يمكن أن تكون ديمقراطية في دولة عربية دون الأخرى، ولا مجتمع ديمقراطي في بلد دون الآخر.
إن خلق تحالفات تهدف تقسيم العالم العربي، وتحويله إلى دويلات طائفية، يعني تدمير مستقبل المنطقة. وبالعكس في الاتحاد القوة. وقوة العالم العربي تكمن في وحدته، وفي الثقة بين فئات الأقطار العربية. لا بل إنَّ نجاح قيام شرق أوسط جديد، تجاه أوروبا وأميركا، يكمن في بعث الثقة بين الشرق والغرب، وبين أوروبا والبلاد العربية، وبين المسلمين والمسيحيين، وبين جميع المواطنين.
وهنا يكمن دور المسيحيين في العالم العربي وفي ميلاد شرق أوسط جديد حقيقي. دور المسيحيين العرب هو أن يعملوا على خلق مناخ من الثقة بين الغرب من جهة، والعالم العربي والإسلام من جهة أخرى. إن تاريخنا العربي، وبما أننّا جزء لا يتجزّأ من هذا العالم العربي والإسلامي، يخوِّلنا القيام بهذا الدور الهام في علاقات الشرق والغرب.
ولهذا فإننا كمسيحيين مشرقيين عرب، نتوجّه إلى الغرب عمومًا، وإلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية: اعطونا ثقتكم! ونحن نبادلكم الثقة! ثقوا بالعالم العربي، وهو سيثق بكم! لا تعملوا على انقسام العالم العربي، والدول العربية، من خلال الأحلاف... بل ساعدوا هذا العالم على تحقيق وحدته وتضامنه. لا تسعَوا إلى زرع الفتنة والتفرقة في العالم العربي، وبين المسيحيين والمسلمين، فنحن كلُّنا عرب، مسيحيين ومسلمين. ونقول لكم بصراحة: إذا نجحتم في تقسيم العالم العربي وتقسيم المسلمين فيما بينهم، وشعبهم وفرقهم، وفي تقسيم المسيحيين والمسلمين، فإنكم ستبقون تعيشون في خوف من العالم العربي ومن العالم الإسلامي.
عمل الكرسي الرسولي الروماني
نريد أن نشير هنا إلى أهمية دور أوروبا المسيحية في عملية خلق الثقة بين الشرق والغرب.
وإننا، كمسيحيين وكاثوليك، في تواصل دائم مع عالمنا العربي ومجتمعنا الإسلامي، نتوجّه إلى أختنا الكبرى كنيسة روما المتصدرة بالمحبة، إلى الكرسي الرسولي الروماني، وإلى أخواتنا كنائس الغرب الكاثوليكية في أوروبا وأميركا، داعين إياهم جميعًا إلى مضاعفة الجهود وبذل المساعي لدى دولهم، متضامنين معنا نحن مسيحيي الشرق لتحقيق الهدف الواحد المشترك، ألا وهو إحلال السلام.
ونريد هنا أن نشكر شكرًا عميقًا المجالس الأسقفية الأوروبية التي نشعر بتضامنها معنا ولأجل قضايانا في الشرق العربي. ونخصُّ بالشكر الباباوات الذين اهتموا اهتمامًا مميَّزًا بالقضية الفلسطينية منذ بداياتها، على عهد البابا بيوس الثاني عشر، نيو حنا الثالث والعشرين وبولس السادس، ويوحنا بولس الثاني، وصولاً إلى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي يتابع التطوُّرات الأليمة المأسوية في هذه المنطقة، بإحساس مرهف ومسؤولية مثالية. وهو الذي قال: "إن التنصّل من المسؤولية تجاه إحلال السلام في الشرق الأوسط موقف لا أخلاقي". وقد رافق مراحل الحرب المدمّرة على لبنان بكل حَدْبٍ واهتمام، مشيرًا إلى مسؤولية كل انسان في سبيل إحلال السلام في المنطقة.
وأُحبُّ أن أذكر بنوعٍ خاصّ نداء السِّينودس الختامي. وهذا هو المقطع المتعلِّق بالقضيَّة الفلسطينيَّة في النِّداء.
بحثنا في الوضع الاجتماعي والأمني في كلِّ بلدان الشرق الأوسط، وأدركنا تأثير النِّزاع الإرسائيلي الفلسطيني على المنطقة كلِّها، ولا سيَّما على الشعب الفلسطيني الذي يُعاني من نتائج الاحتلال الإسرائيلي: الحدّ من حرِّيَّة الحركة، والجدار الفاصل والحواجز العسكريَّة، والأسرى وتدمير البيوت واضطراب الحياة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وآلاف اللاجئين. كما فكَّرنا في آلام الإسرائيليين وعدم الاستقرار الذي يعيشون فيه. واستوقفتنا المدينة المقدَّسة ، القدس، وقد شعرنا بالقلق بسبب الإجراءات الأحاديَّة الجانب التي تهدِّد وضعها، وتوشك أن تبدِّل التوازن السُّكَّاني فيها. وأمام هذا كلِّه نرى أنَّ صنع السَّلام النِّهائي والعادل هو المخرج الوحيد للجميع، ولخي المنطقة وشعوبها.
ووقفنا عند علاقات المواطنين بعضهم مع بعض، وعند العلاقات بين المسيحيين والمسلمين. وهنا نؤكِّد مبدأً أساسيًّا في رؤيتنا المسيحيَّة، يحكم هذه العلاقات: وهو أنَّ الله يريدنا أن نكون مسيحيين في مجتمعاتنا الشرق أوسطيَّة ومن أجلها. إنَّها مشيئة الله فينا، وهي رسالتنا ودعوتنا أن نكون مسيحيين ومسلمين معًا. وفي ضوء وصيَّة المحبَّة وقوَّة الرُّوح فينا نقيم هذه العلاقات.
والمبدأ الثاني الذي يحكم هذه العلاقات، هو أنَّنا جزءٌ لا يتجزَّأ من مجتمعاتنا. فرسالتنا المنبثقة من إيماننا وواجبنا تجاه أوطاننا يُحتِّمان علينا أن نُسهم في بناء بلداننا مع كلِّ مواطنينا، المسلمين واليهود والمسيحيين.
كما أُحبُّ أن أذكر ما ورد في كلمات قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر في هذا السِّينودس:
وعلَّل قداسته في خطاب افتتاح السِّينودس الأحوال والظروف التي يعيش فيها المسيحيُّون عمومًا في منطقة الشرق الأوسط، والتي تؤثِّر سلبًا على عيش الشركة وأداء الشهادة الإيمانيَّة المسيحيَّة في المجتمع.
يقول قداسته: "يذهب بنا الفكر إلى الكثير من إخوتنا وأخواتنا الذين يعيشون في منطقة الشرق الأوسط، والذين يعانون من أوضاعٍ صعبة، أكان بسبب عدم توفُّر الإمكانيَّات المادِّيَّة، أو بسبب الإحباط وحالة التوتُّر وأحيانًا الخوف. تقدّم لنا كلمة الله اليوم أيضًا نور رجاءٍ معزٍّ".
ولاحقًا يقول قداسته: "قد تطبق على المسيحيين في الشرق الأوسط كلمات الرَّبِّ يسوع: "لا تخف أيُّها القطيع الصَّغير، فقد حسُنَ لدى أبيكم أن يُنعمَ عليكم بالملكوت" (لوقا 12: 32). بالفعل، حتَّى لو كانوا قلَّة عدديَّة، لكنَّهم حاملو البشرى السَّارَّة لمحبَّة الله للإنسان، محبَّة تجلَّت بالذَّات في الأرض المقدَّسة في شخص يسوع المسيح. وتتردَّد أصداء كلمة الخلاص هذه، والمعزَّزة بنعمة الأسرار، بفعاليَّة فريدة، في الأماكن التي، بعناية إلهيَّة، كتبت فيها، وهي الكلمة الوحيدة القادرة على كسر دوَّامة الثأر والكراهيَّة والعنف. فانطلاقًا من قلبٍ نقيّ، وفي سلامٍ مع الله والقريب، يمكن أن تنشأ نوايا ومبادرات سلام على الصَّعيد المحلِّي والوطني والدَّولي".
وفي موقعٍ آخر من خطابه يشدِّد قداسته على شرطٍ مهمٍّ جدًّا لأجل عيش الشركة والشهادة، ألا وهو حلّ الصِّراع الإسرائيلي _ الفلسطيني _ العربي.
"منذ زمنٍ بعيد تستمرُّ في الشرق الأوسط النزاعات، الحروب، العنف والإرهاب. السَّلام، الذي هو عطيَّة من الله، هو أيضًا نتيجة جهود البشر ذوي الإرادة الحسنة، والمؤسَّسات الوطنيَّة والدُّوليَّة، وخصوصًا الدُّول الأكثر مشاركة في البحث عن حلٍّ للنزاعات. يجب ألاَّ نرضخ أبدًا أمام غياب السَّلام. السَّلام ممكن. السَّلام ملحّ. السَّلام شرطٌ لا بدَّ منه لحياةٍ كريمةٍ للشخص البشريّ وللمجتمع. السَّلام هو أيضًا الدَّواء الأنجع لتلافي الهجرة من الشرق الأوسط".
أيَّها الإخوة والأخوات!
إنَّ أحداثَ وثوراتِ ما دُعيَ خطأً "الرَّبيع العربي"، أظهرت تأثير مشكلة الصِّراع الفلسطيني _ العربي _ الإسرائيلي، على هذه الثورات وتجاذباتها، كما كنتُ قد أشرت إلى ذلك في رسائلي خاصَّةً رسالة 2006 المذكورة أعلاه. ومن المؤسف أنَّ العرب إنقسموا حول هذه الأحداث بسبب انقسامهم تجاه القضيَّة الفلسطينيَّة.
وأُشير إلى أنَّ إفرازات الصِّراع الإسرائيلي _ الفلسطيني _ العربي، هي الأشدُّ خطورةً في تاريخ العالم العربي، وهي أكبر مصدرٍ للآفات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة والدِّينيَّة في مجتمعنا العربي، ومنها: الاستغلال _ البغض _ الكراهيَّة _ العداء _ الابتزاز _ التشرذم _ الانقسام _ الطَّائفيَّة الأصوليَّة _ الإرهاب _ الفساد _ التقوقع _ والتبعيَّة والاصطفاف المتشرذم...
لا بل أقول جازمًا، إنَّ الآفة الكبرى الناتجة عن هذا الصِّراع، هي المتاجرة بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وبالشعب الفلسطيني، وهي التي بدورها تغذِّي فيما تُغذِّيه المتاجرة بالأسلحة، والتسلُّحَ النوويّ في المنطقة... يؤلمني جدًا أن أقول أن الدول العربية هي أسيرة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني-العربي. هذا الصراع عنَّف العالم العربي والأجيال العربيَّة الناشئة على مدى ثلاث وستين سنة، لا بل العالم كان أسير هذا الصراع! لا بل كان مجلس الأمن أسيرًا لتجاذبات هذا الصراع، خصوصًا في استعمال حقِّ الڤيتو وعمومًا ليس لصالح القضية الفلسطينية.
ومن أسرى القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني-العربي لبنان، وبخاصّة في الظروف والأوضاع العربية الراهنة. إن لبنان أسيرٌ محليًا وإقليميًا، عربيًا وعالميًا. لبنان أسير هذا الصراع والقضية الفلسطينية جنوبًا وشمالاً وبقاعًا وحتى في عاصمته بيروت.
ومن هنا صرختي الضَّميريَّة، الإيمانيَّة، الرُّوحيَّة، الوجدانيَّة، كبطريرك وراع، وإنسان مسيحي مؤمن، ومواطن عربي قحّ شريف وصادق، وصاحب قناعات عربيَّة _ مسيحيَّة _ إسلاميَّة _ مشرقيَّة ثابتة وراسخة. وبنوعٍ خاصّ هي صرخة بطريرك محبّ لهذا العالم العربي _ الإسلامي الذي هو عالمي وموضوع محبَّتي، وخدمتي الإيمانيَّة والاجتماعيَّة، ورسالتي والتزامي المسيحي والوطني والإنساني.
ومن هذا المنطلق كتبتُ هذا المقطع في رسالتي المذكورة لعام 2006:
كلمات الإنجيل المقدس
انطلاقًا من قناعاتنا المسيحية المرتكزة على تعاليم السيد المسيح في الإنجيل المقدّس نتوجّه إلى إخوتنا المسيحيين هنا وفي الغرب بخاصة، ونناشدهم بروح مسؤولية عالية، ونقول لهم: أحبوا هذا العالم العربي! أحبوا المسلمين، فإننا كلَّنا، نحن وهم، ونحن وأنتم ، مخلوقون على صورة الله ومثاله (تك 1: 26).
إلى هذا يدعونا إنجيلنا المقدس حيث نقرأ: "هكذا أحبَّ الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد وأرسله ليخلص به العالم" (يوحنا 3: 16-17). وإننا مقتنعون أن الإنجيل ويسوع على حق. فالدواء الوحيد لعالم العنف والحرب والقتل وإيدولوجية الإرهاب، الدواء الوحيد هو المحبة!
خاتمة
إنَّ عدم حلّ الصِّراع الفلسطيني _ الإسرائيلي هو أمرٌ مقصود! وداخلٌ ضمن مخطَّطٍ كبير. وهو سيضاعف الهجرة العربيَّة وبخاصَّةٍ المسيحيَّة إلى درجةٍ كبيرةٍ جدًّا. كما هو الذي ولَّد وأنتج وأفرز الإسلام السِّياسي، والأصوليَّات. وسيقضي على العيش المشترك، وعلى الحوار المسيحي _ الإسلامي في بلادنا، وعلى وحدة العالم العربي، وعلى الحوار المسيحي الإسلامي في العالم.
ولهذا فلا يجوز لنا أن نفشل أو نرمي سلاحنا في المسعى نحو حلِّ القضيَّة الفلسطينيَّة وإحلال السَّلام فهو خشبة الخلاص لنا ولعالمنا العربيّ.
السَّلام ملحّ! السَّلام مكن! السَّلام هو الحلّ! وهو خارطة طريق الأمن والأمان والازدهار والحرِّيَّة والكرامة والعيش المشترك والعيش معًا. لا بل هو حامي قيَمنا الإيمانيَّة المسيحيَّة والإسلاميَّة. وهو الرؤية الحقيقيَّة والمستقبل الأفضل والمشرق لشبابنا العربي (60% من هم شباب) وللأجيال الطَّالعة.
"يا رب أعطنا السَّلام فقد أعطيتنا كلَّ شيءٍ"
"المجد لله في العُلى، وعلى الأرض لسَّلام، وفي النَّاس المسرَّة".
غريغوريوس الثّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريّة وأورشليم للرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك