جولة في عقل نتنياهو
جريدة الايام
بقلم عبد المجيد سويلم 8-3-2012
أحياناً لا يستقيم التحليل الموضوعي الرصين في فهم الظواهر إلاّ إذا أُخذ الكثير من المظاهر والخبايا أيضاً ليس بعين الاعتبار فقط، وإنما حدود تأثيرها (المظاهر والخبايا) على سياقات التحليل والدور الذي تلعبه فعلياً في مسار الوقائع وفي عديد معالم الواقع.
ينطبق هذا الأمر على رئيس وزراء إسرائيل بصورة أقرب إلى النموذجية.
نتنياهو يقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول ويفكر بشكل ثالث.
السؤال البديهي ما العلاقة التي تربط ما بين هذا الثالوث المركّب وما أهمية ما يفكر به نتنياهو إذا كان يقول ما لا يفعله ويفعل ما لا يقوله؟
الحقيقة أن ما أقصده بالذات بالجولة في عقل نتنياهو هو هذه العلاقة بالذات وكيف أن ما يفكر به نتنياهو هو الأصل والفصل، وأن تناقض الأقوال والأفعال عنده ليس إلاّ "ثمرة" ناضجة لما يفكّر به.
فهو ينادي (ليل نهار) بالسلام ويفعل كل ما بوسعه (ليل نهار أيضاً) من أجل تقويضه، وهو "مقتنع" بضرورة حل الدولتين وصولاً في أسرع وقت ممكن لتدمير أسس وقواعد هذا الحل، وهو "مؤمن" أشد الإيمان باحتياجات إسرائيل الأمنية إلى درجة الدعوة العامة إلى حرب مفتوحة على إيران ولبنان وغزة وعلى الإسلام السياسي القادم في ثنايا الربيع العربي وعلى "الإرهاب" و"التطرف الإسلامي" وعلى تركيا والباكستان وربما اندونيسيا وماليزيا إذا لزم الأمر.
"جماعة" نتنياهو يرون في الشعب الفلسطيني نقيضاً مباشراً "لوجود" الدولة ويرون بالعنصر الفلسطيني في إطار الدولة اليهودية التهديد الأول (المقصود هنا بالدولة اليهودية هو إسرائيل التي تسيطر على كامل فلسطين التاريخية) والتي تحاصر مليونا ونصف المليون في غزة، وتتحكم بحركة ثلاثة ملايين في الضفة الغربية، وتسيطر على مواردهم وثرواتهم ووسائل عيشهم، إضافة إلى سيطرتها على الحدود والمعابر وكافة وسائل الاتصال، وتحكمها بأدق تفاصيل حياتهم، ناهيكم طبعاً عن فلسطينيي الداخل.
نتنياهو وجماعته يعرفون حق المعرفة (وهم لذلك يصرّون على المفاوضات) أن المفاوضات دون شروط مسبقة تعني الموافقة الفلسطينية على كافة الشروط الإسرائيلية، وأن المفاوضات دون مرجعية ودون سقف زمني ودون هدف محدد وفي ظل استمرار السياسة الاستيطانية بل وتعمق هذه السياسة وتوغلها إنما تعني أن الطرف الفلسطيني الذي سيوافق عليها سيكون قد تخلّى عن أهدافه وحقوقه وسيكون قد تحوّل بالفعل إلى رهينة لهذه المفاوضات ونتائجها.
ولأن نتنياهو يعرف حق المعرفة أن القيادة الفلسطينية قد غادرت هذا الميدان فهو يحتاج إلى الوقت الكافي لاستكمال بناء الجدار ويحتاج لبعض الوقت لإنهاء بعض المشاريع الكبيرة في القدس، وهو يحتاج إلى وقت إضافي للشروع في ربط المستوطنات بإسرائيل بصورة غير قابلة للعودة إلى الخلف، وذلك كله من أجل أن يتحدد الأمن وقضية الحدود على الأرض وقبل أية مفاوضات مستقبلية (جادة) وحينها (كما يرى ويفكر نتنياهو) لن يجد "المجتمع الدولي" من مفر غير "أخد الوقائع القائمة بعين الاعتبار" وهكذا سيتحول الفهم الإسرائيلي للتسوية إلى "شرعية دولية جديدة" وقاعدة للحل وأساس (موضوعي) للتسوية الجغرافية.
نتنياهو يعتقد أن "الملهاة" الإيرانية هي الوسيلة الأفضل لتحويل الأنظار عن المشكلة الحقيقية، وهي الأداة الأكثر فعالية لابتزاز القيادات الأميركية الديمقراطية منها والجمهورية، وهي الطريقة المثلى لتحويل القضية الفلسطينية من قضية دولية وتحررية إلى قضية "محلية" وكملحق بالاحتياجات الأمنية الإسرائيلية العامة التي تمثل إيران عنوانها الأول والحركات الإسلامية والتطرف والإرهاب عنوانها الموازي والمماثل.
وبهذه الطريقة فقط تبرز الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للمصالح الغربية عموماً وبالنسبة للمصالح الأميركية على وجه الخصوص، باعتبارها الحليف الوحيد الآمن والمضمون والقادر على الاستجابة التامة والانسجام الشامل مع تلك المصالح.
إذاً، يرى نتنياهو أن الربيع العربي لا يمثل تهديداً لإسرائيل بقدر ما يراه فرصة سانحة لإعادة ترتيب الأولويات في عموم الاقليم ومن أجل استعادة زمام المبادرة الاستراتيجية فيها عبر كسر الحلقة الإيرانية بتحالف دولي تقوده الولايات المتحدة وبغطاء عربي وبحيث تتحول إسرائيل إلى شريك للمجتمع الدولي في مواجهة الخطر الإيراني الذي "يهدد" المصالح الدولية في هذه المنطقة الحساسة من العالم بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الغربية.
ويرى نتنياهو أن الربيع العربي سيأتي بالإسلام السياسي وهو حليف مؤقت للغرب وهو مجرد حليف محتمل وليس له طابع الحليف الدائم، الأمر الذي سيعزز من مكانة إسرائيل في كل الأحوال والظروف. وتجربة التحالف مع الإسلام السياسي العربي عموماً تجربة فاشلة. فقد استخدم الغرب الإسلام السياسي في حربه مع السوفييت وفي حربه مع القومية العربية وهو يستخدم الإسلام السياسي في حربه مع الحركات الديمقراطية الجماهيرية العازمة على بناء دولة حديثة وإحداث تنمية حقيقية وتطوير المجتمعات العربية وإدخالها إلى المستقبل دون أن يصل هذا الاستخدام إلى درجة التحالف الحقيقي. لا يوجد مشروع غربي لبناء الدولة العربية الحديثة وإنما يوجد المشروع الغربي لتعطيل بناء هذه الدولة ولهذا بالذات فالغرب مستعد "للتحالف" مع الإسلام السياسي بهدف ضمان وقف الثورة عند حدود الإطاحة بالرموز والأدوات الطاغية والفاسدة وليس إحداث التغيرات التي تؤسس للدولة الحديثة.
هنا يرى نتنياهو فرصته السانحة وهنا يتم تهميش الحقوق الوطنية الفلسطينية، وهنا يتحول الربيع العربي إلى مجرد إسقاط لأنظمة وليس إحداث ثورة اجتماعية أو سياسية جذرية أو التحول إلى الدولة الحديثة.
وفي نهاية المطاف، إن صعود إيران (على الصعيد الإقليمي) لم يكن ممكناً لو أن إسرائيل قبلت بالحل السياسي القائم على الشرعية الدولية وصعود الإسلام السياسي كان مستحيلاً لو أن إسرائيل التزمت بالحد الأدنى من أسس السلام العادل، وهو الأمر الذي يجعل من السياسة الإسرائيلية المدعومة من الغرب القوت اليومي لإيران والإسلام السياسي تماماً كما أن سياسة إيران وسياسات الإسلام السياسي هي قوت السياسة الإسرائيلية أو هي ستكون كذلك على مدى عقد قادم على الأقل.
في إسرائيل هناك مَن يقول لنتنياهو "دعك من هذه الملهاة لأن المسألة ليست هنا، والحل مع الشعب الفلسطيني هو المخرج الوحيد"، ولكن نتنياهو لا يرى ولا يسمع لأن التوجه الجاد للحل العادل يعني نهاية الأيديولوجية الصهيونية ونهاية "المشروع المهدد" ونهاية "الديمقراطية" في الشرق الأوسط ونهاية القِيمْ الغربية في هذا الأقليم.
النهاية الوحيدة التي يخطط لها نتنياهو ويفكر بها ليل نهار هي كيف يتم القضاء على السلام وإلى الأبد، وهو يستخدم الملهاة الإيرانية، وسيستخدم ملهاة الإسلام السياسي من أجل تعزيز الفكرة الصهيونية وتحويل السلام إلى عملية مستحيلة.
بهذا المعنى، فإن نتنياهو رجل "عملي" من الطراز الأول، ولكن أيديولوجيا نتنياهو تفقده جادة الصواب.
وأكاد أجزم بأن التاريخ سينصف هذه الأيديولوجيا وزعيمها ولو بذكر عابر في إحدى صفحاته الهامشية.