فلسطينيات دخلن التاريخ... بلا أسماء
جريدة الاخبار
بقلم بيان نويهض الحوت 8-3-2012
حديثنا عن المرأة الفلسطينية في عيدها العالمي ليس عن إنجازاتها، أو رائداتها، أو إبداعها، أو تفوقها في شتى المجالات، بل عن النساء اللواتي طواهنّ النسيان؛ حديثنا عن الأكثرية العاملة المناضلة الصامتة. وليس هذا لمجرد الرغبة في الانطلاق عكس السير ـــــ كما يبدو ـــــ بل انسجاماً مع التاريخ القريب لفلسطين تحت الانتداب، وحاضرها تحت الاحتلال (وكل فلسطين اليوم تحت الاحتلال).
المشهد الأول: مشهد الفلاحة التي تعمل في الحقل كما في البيت، والتي تحمل نتاج الحقل على رأسها وتذهب إلى أقرب المدن لبيعه، ولو مشياً على الأقدام. تلك المرأة كانت عماد أسرتها الصغيرة، وعماد قريتها، وجاء يوم أضحت فيه عماد شعبها. ففي الثورات والاضطرابات، كانت تلك الفلاحة تخبئ السلاح تحت الخضار والفاكهة، وتمشي رافعة الرأس أمام «عسكر الإنكليز». واشتهرت حيفا بالمرأة «القسّامية» التي كانت تخبئ السلاح في تنكة ثقيلة على رأسها، وهي تنادي على من يشتري الزيت. وأما بعد الإضراب الكبير (في 1936)، وامتداده إلى أكثر من ستة أشهر، فقد اعترف المندوب السامي واكهوب في إحدى رسائله بأنّ الإضراب نجح بفضل المرأة التي لم تنقطع عن حمل نتاج الحقل وإيصاله إلى سكان المدن في أسوأ الظروف، ومن دون
مقابل.
المشهد الثاني: مشهد فلسطين في السابع عشر من حزيران 1930، يوم أعدمت حكومة الانتداب ثلاثة أبطال مناضلين: محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير. كانت فلسطين في ذلك اليوم في إضراب شامل، وصمت غاضب، وعزلة عن العالم. وكان القرار أن يُعدم الثلاثة بالتتابع مع فارق ساعة بين الشهيد والشهيد. ومع إعدام كلّ واحد منهم، كانت تُقرع في فلسطين كلّها أجراس الكنائس، ويرتفع من أعالي المآذن نداء «الله أكبر... الله أكبر». أمهات الأبطال اللواتي حُرمن وداع أولادهن، وقفن أمام سجن عكا ينادين عليهم بأعلى أصواتهن، ويدعونهم إلى الصمود والشجاعة، ثم رحن ينشدن لهم الأهازيج الوطنية. لا يتذكر أحد أسماء الأمهات. غير أنّ الشعب استمر يردّد تلك الأهازيج.
المشهد الثالث: مشهد الثورة الكبرى التي استمرت ثلاث سنوات (1936 ـــــ 1939)، والتي ما كان لها أن تستمر لولا المرأة التي كانت ينبوع العطاء للثوار جميعاً، فهي ترسل إليهم الطعام يومياً، وهي تحميهم من مفاجآت «عسكر الإنكليز»، كلما داهموا المكان. بيتها بيتهم. أما البطولة «الأسطورية» لفظاً، والحقيقية تاريخياً، فهي جرأة المرأة النادرة يوم كان هؤلاء العسكر يداهمون القرية، ويجمعون السكان في الساحة، ثم يجيئون معهم بمجموعة من الشبان مكبلين بالأغلال، فيوقِفونهم على الحائط، وهم يصرخون بالأهالي: «ألا تعرفونهم؟». كان ينكر الأهالي معرفتهم بأي منهم، حتى لو كانوا جميعاً أو كان بعضهم من أبناء القرية، ذلك بأنّهم فيما لو اعترفوا، لكان جزاء القرية التدمير، تدمير البيوت أمام أصحابها، ولكان عقاب السكان القتل بلا رادع. وتقترب النهاية حين يقدم العساكر على قتل هؤلاء الشبان الأبطال بالرصاص، وفي ظنهم أنّه لا بد لأم الشهيد أو زوجته، أو أيّ من قريباته أن تصرخ، غير أنّ التاريخ الذي سجّل عشرات الحوادث التي أعدم فيها الشبان في ساحة القرية، لم يسجل حادثة واحدة صرخت فيها امرأة، وهي تشاهد بعينيها ابنها او زوجها يُقتل
بالرصاص.
المشهد الرابع: هذا هو المشهد البطولي، فما إن أعلن قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947، حتى قامت في البلاد حرب ضد ذلك، وما كانت المرأة لتكتفي هذه المرة بإطعام المناضلين أو بحماية الخطوط الخلفية، بل هبت تشارك في الإسعاف، وتحمل السلاح، ولو قليلاً، واستشهدت العشرات من النساء. لم تعرف أسماء الكثيرات منهن، لكن عرفت أسماء البعض، وخصوصاً اللواتي كن يضمدن الجراح أو يسعفن الجرحى، فهكذا استشهدت حياة بلابسة في دير ياسين، وجولييت زكا في حيفا. وأضحت كلّ منهما رمزاً.
المشهد الخامس: مشهد اللجوء والمخيمات، ولنبدأ بالاعتراف بأنّ سنوات النكبة الأولى، أي سنوات التيه، لم تكتب بعد على حقيقتها، ربما لأنّ حياة اللاجئين المأساوية كانت هي الطاغية. وربما لأنّ المؤرخين والمحللين لم يسألوا بدورهم كثيراً أسئلة من نوع: «كيف صمد الشعب في المخيمات؟ كيف؟». الجواب الصادق لا يكمن في عطاءات وكالة الغوث المحدودة جداً، ولا يكمن في تسابق الحكام العرب على إصدار التصريحات المدوية المؤيدة لفلسطين وشعبها، بل يكمن في عمل الأم اليومي الصامت والمتواصل. يكمن في تربيتها صغارها على الإيمان والحق والصبر. يكمن في تشجعيها ابنتها على خوض غمار الحياة كالرجل. في تلك السنوات، فُتحت حدود الدول الخليجية أمام الفتاة الفلسطينية لتعمل في سلك التعليم، أكثر مما كانت تُفتح للشاب الذي كانت الحكومات العربية على نحو عام تخشى من التنظيمات السرية من ورائه. وهكذا كانت هي ـــــ المرأة ـــــ مصدر الدعم المالي الأساسي للأسرة.
المشهد السادس: في هذا المشهد السياسي، نكتشف أنّ المرأة الفلسطينية قد تكون المرأة الوحيدة في العالم التي نالت حقوقها السياسية من دون أية مطالبة، أو تظاهرة، أو شعار من نوع: «افتحوا لنا أبواب البرلمان!». ذلك أنّ المرأة أصبحت فعلاً عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني الأول (أيار 1964)، تماماً كما أصبح الرجل عضواً في ذلك المجلس التمثيلي الأول في حياة الشعب الفلسطيني. وهكذا نالت المرأة حقوقها السياسية بناءً على رصيدها التاريخي من النضال الصامت المتواصل، في الوطن، وفي المنفى، وفي المخيمات. ومهم أيضاً أن نضيف إنّ دخول المرأة الحياة السياسية من أوسع أبوابها، وبيسر وبساطة، لم يلق اعتراضاً واحداً من الجهة المقابلة، أي الرجال. وبعدما مرت الأعوام وأصبحت المرأة سفيرة لوطنها في أكثر من بلد، وعضواً في اللجان التنفيذية، لم يلق ذلك من الرجل غير الترحيب.
المشهد السابع: هذا مشهد متزامن مع انطلاقة العمل الفدائي بعد هزيمة 1967، يوم فتحت معسكرات التدريب أمام الفتاة الفلسطينية. ربما كان هناك اعتراض ما، هنا أو هناك، من بعض الأهل كي يطمئنوا إلى مكان التدريب، والمسؤولين... غير أنّها مسألة لافتة للنظر أنّ دخول المرأة الميدان العسكري، كان إلى حد كبير، سهلاً كما كان دخولها الميدان
السياسي.
المشهد الثامن: هذا المشهد نراه على شاشات التلفزيون. نرى الأم التي تمسك بذراع الجندي الإسرائيلي بقوة، محاولة إبعاد ولدها ابن السنوات العشر عنه، ونسمعها تصرخ في الجندي بجرأتها المعهودة. وهي حتى إن شاهدت ابنها يُجر أمامها إلى الشاحنة، فهي تستمر في غضبها، في ثورتها التي لا تعرف التوسل. ونرى المرأة بثوبها الفلاحي المطرز تدافع عن زيتونتها العتيقة ما استطاعت، ونراها تجلس على ركام بيتها المهدّم، وهي تقول بإصرار: «لن نرحل... لن نرحل».
يسألنا الكثيرون من عرب وأجانب: «هل تؤمنون حقاً بالعودة؟ أهي ممكنة؟» وجوابي دائماً: «نعم... وألف نعم. وليس من الضروري أن أعود أنا أو يعود أبناء جيلي، لكن العودة قادمة، وفلسطين لشعبها وكل من يناضل من أجلها من أصدقائها». غير أنّني الآن أود أن أضيف إنّ هذا الإيمان مستمد عاطفياً ومعنوياً وعقلانياً من مشاهدتي للمرأة الصلبة الصابرة تلك، مع الجندي، وأمام زيتونتها، وعلى ركام بيتها.