ماذا يعني هذا؟
جريدة الايام
بقلم حسن البطل 26-3-2012
طبعاً، أتصفّح "النهار" البيروتية على الشبكة، وأقرأ "الأيام" الفلسطينية الورقية. أعرف أن زميلي إلياس خوري يفعل العكس، كما قال بنفسه. في عدد الأمس، الأحد، نشرت "النهار" الإلكترونية على صفحتها الرئيسية صورة فلسطينية، بينما نشرتها "الأيام" على صفحتها الثالثة.
ستسألون، ما أهمية هذا؟ كل صحيفة تنشر ما تشاء على رئيسيتها وصفحاتها الداخلية. هذا صحيح، لولا أن الصورة صارت عادية في صحفنا، وربما غير عادية في الصحف العربية.
الصورة من بيت أمّر، وفيها أن غلاماً فلسطينياً أعزل يتحدى جندياً إسرائيلياً، رأسه يلامس الخوذة. وتستطيعون أن تتخيلوا "لغة العيون".
ماذا يعني هذا؟ ميزان "القوة المعنوية" يميل للمدني الفلسطيني، وأما ميزان القوة المادية فيميل للجندي الإسرائيلي. المهم، أن "حاجز الخوف" اجتازه الفلسطينيون من زمان، وأما ميزان الخوف من عسكر النظام العربي فقد انكسر منذ عام وشهور.
انكسار خوف المدني السوري من العسكري يتعدى ربيعاً سورياً في موجة "الربيع العربي". في سورية قد يثمر ربيعها عن ثقافة جديدة و"عروبة جديدة" ديمقراطية، في حين أن ربيعات عربية أثمرت عن تغيير نظام بنظام من جنسه تقريباً.. حتى الآن!
إسرائيل لا ترى الأمور هكذا كما نراها، وتعقد مقارنات لا محل لها بين "رأفة" القمع الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، وبين "بطش" القمع العربي لثورة الشارع العربي. وستوصلها المقارنة إلى عزف جديد على ديمقراطية الدولة اليهودية قبالة الاستبداد العربي والإسلامي.. الذي يحتل السلطة وليس الأرض والموارد كما تفعل إسرائيل.
عندما شطت المقارنات بعيداً، وجرى توظيفها في المسألة النووية الإيرانية، وفي اضطهاد النساء والمثليين في بلاد الإسلام والعرب، وجد ياريف أوبنهايمر، سكرتير حركة "السلام الآن" الإسرائيلية ما يدعوه لتذكير بني قومه أن الإيرانيين هم فرس وليسوا عرباً، وأن العرب ليسوا فلسطينيين، وأن المشروعية الأخلاقية للكفاح الفلسطيني تختلف جداً عن دوافع إيران لعداء إسرائيل.. وأن في السلطة الفلسطينية خمس وزيرات وعشرين قاضية، ورئيسة بلدية، ورئيسة محافظة.
في كل مقتلة لليهود في العالم وفي إسرائيل، تعود هذه إلى الضرب على معزوفة "الإرهاب" و"كراهية اليهود" و"اللاسامية" و"العالم كله ضدنا" كما فعلت، مؤخراً، في مقتلة تلاميذ يهود في مدينة تولوز، على أيدي جزائري فرنسي الولادة، برّر جريمته بالتضامن مع أطفال فلسطين.. وأسباب أخرى.
إن يكن الفلسطينيون مارسوا "الإرهاب"، فإن أسبابهم مشروعة، من حيث المبدأ، لكونها رداً على "الإرهاب" الإسرائيلي، وإن انسحب الفلسطينيون من "الإرهاب" العالمي مبكراً فقد استبدلوه بكفاح على أراضيهم وفي وجه قوة الاحتلال، وإن توقفوا عن "العمليات الانتحارية" فقد استبدلوها بمقاومة سلمية شعبية تتحدى جنود الاحتلال من المسافة صفر.
السلطات الفرنسية تعرضت لانتقادات بعد مقتل المجرم الجهادي، الذي تذرع أيضاً بقانون منع النقاب.. لكن، في دولة القانون فعلاً، لم تقم الأجهزة الأمنية الفرنسية بـ"عقوبات جماعية" ضد أسرة المجرم، ولم تنسف بيته مثلاً، ولم تعتقل أفراد أسرته لأنه "يجب عدم الخلط بين الأصولية الدينية والإرهاب" كما قال رئيس الوزراء الفرنسي.
الإسرائيليون، الذين يرفضون أية مقارنة بين "المحرقة" وسواها من آلام ومذابح شعوب أخرى، يستخدمونها على نحو كيفي وتعسفي، فهم يرون أن خطوط 1967 هي "خطوط أوشفيتز" كما قال أبا إيبان. صحيح أن من حق الديمقراطية أن تدافع عن نفسها، ولكن ليس بقوانين الانتداب البريطاني يوم لم تكن هناك أمم متحدة ومحكمة لاهاي، ومنظمات حقوق الإنسان.. وأهم من هذا كله أن نظم الاستبداد تظلم شعوبها، لكن إسرائيل، كقوة احتلال أخيرة في هذا العصر، تظلم شعباً آخر يريد ممارسة حقه في تقرير المصير والاستقلال وتمنعه عن هذا.
قرار مجلس حقوق الإنسان بتشكيل لجنة تحقيق في تمادي الاستيطان ليس "مفارقة ساخرة" من أغلبية آلية، بل مفارقة ساخرة بمعنى آخر، إذ يعتبر اليهود أنفسهم "صفوة الشعوب" كما النازيون، ويحظون في المجلس والجمعية العامة بـ"صفوة" تصويتات الدول الديمقراطية لصالحهم.
تصر إسرائيل على أنها "الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة، ولكنها ديمقراطية فريدة وعجيبة لا تلقي بالاً لصورتها المتآكلة في العالم الواسع، الذي لا يفهم لماذا تمنع إسرائيل عن الشعب الفلسطيني حقوقه الأساسية السياسية المشروعة، باسم "حق إلهي" صار سخرية أغلب شباب الجامعات في العالم.
نعود إلى البداية، وكسر "حاجز الخوف" وقد كسره الفدائيون الأوائل، والآن يكسره المدنيون العزل.. وبدأت الشعوب العربية في كسره.. وهو الذي سيرسم خارطة ديمقراطية جديدة للمنطقة، وليس التفوق العسكري والردع النووي الذي لم يمنع انهيار المنظومة الاشتراكية.