القدس 6-6-2024
- بلال غيث كسواني
لم تتوقف إسرائيل، منذ احتلالها مدينة القدس في الخامس من حزيران/يونيو 1967، عن محاولاتها الدؤوبة لتهويد المدينة ومقدساتها الإسلامية والمسيحية وتغيير معالمها، عبر بناء المستعمرات وتوسيعها، والاستيلاء على منازل الفلسطينيين أو هدمها بحجج واهية، والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك، والاعتداءات على المصلين، في خرق واضح لاتفاق "الوضع القائم" بالمدينة، والذي ينص على بقاء الوضع في المدينة على ما كان عليه قبيل احتلالها.
وضمن مسلسل الخروقات لـ"الوضع القائم"، استباح الآلاف من المستعمرين، من بينهم وزراء في حكومة الاحتلال وأعضاء "كنيست"، أمس الأربعاء، شوارع المدينة المقدسة وبلدتها القديمة، في الذكرى الـ57 لاحتلاها، فيما يسمى "مسيرة الأعلام"، والتي رافقها اقتحامات للمسجد الأقصى المبارك، واعتداءات على المواطنين المقدسيين ومحالهم التجارية، وعلى الصحفيين.
ما هو اتفاق "الوضع القائم"؟
في عام 1852، أصدرت الدولة العثمانية سلسلة مراسيم لإدارة الأماكن المقدسة المسيحية في القدس، وذلك لتنظيم الوصول إليها بعد خلافات متكررة، ليُكرس هذا التنظيم في القانون الدولي ضمن معاهدة برلين عام 1878، ويدعى رسميا اتفاق الوضع القائم أو الراهن (ستاتيكوStatus Quo ).
وضمن معاهدة برلين، توسع القانون ليشمل الأماكن الدينية الإسلامية واليهودية في القدس، ليصبح بعدها اتفاق الوضع القائم في القدس قانونا دوليا ملزما.
ولاحقا، تسلمت المملكة الأردنية الهاشمية الوصاية على المسجد الأقصى المبارك والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، كجزء من اتفاق الوضع القائم.
وعقب احتلالها للجزء الشرقي من مدينة القدس في حزيران/يونيو 1967، اعترفت إسرائيل باتفاق الوضع القائم بصورة شكلية لتجنب التصعيد والهجوم الدولي، لكن إجراءات وممارسات حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ ذلك الحين حتى اليوم، خرقت هذا الاتفاق بصورة متكررة.
ويستند الوضع القانوني الخاص للمدينة، إلى القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، وأبرزها القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرار مجلس الأمن الدولي 242 وما تلاهما من قرارات أبرزها 252 و267 و2334 وغيرها، والتي دعت إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام 1967، ومن بينها القدس، وبطلان الإجراءات الإسرائيلية الأحادية في الأراضي المحتلة، ومن بينها المدينة المقدسة، بما في ذلك إقامة المستعمرات وتغيير وضع المدينة وطابعها.
وفي تسلسل لأبرز الخروقات لاتفاق "الوضع القائم"، تم رفع علم دولة الاحتلال داخل المسجد الأقصى المبارك فور احتلال المدينة، والاستيلاء على مفاتيح باب المغاربة أحد أبواب المسجد ومنع الفلسطينيين من استخدامه حتى اليوم. ثم احتلت إسرائيل حائط البراق غرب المسجد الأقصى وأطلقت عليه "حائط المبكى" وهدمت حارة المغاربة بالكامل وهجرت سكانها قسرا.
كما انتهك الاحتلال الاتفاق، عبر إغلاق المسجد الأقصى ساعات وأحيانا أيام، كما حدث بعد احتلاله مباشرة، وخلال هبة باب الأسباط عندما حاول الاحتلال وضع "بوابات إلكترونية" عام 2017، إلى جانب منع أعمال الترميم وعرقلتها والاعتداء على حراس المسجد وموظفي دائرة الأوقاف الإسلامية واعتقالهم، بالإضافة إلى الحفريات وإنشاء الأنفاق في محيط المسجد وأسفل البلدة القديمة وحول سور القدس، والتي تسببت بأضرار للبنية التحتية الأثرية وتصدعات لبعض معالم المسجد ومنازل المواطنين في البلدة القديمة وفي بلدة سلوان جنوب المسجد.
ومنذ عام 2003، يقتحم المستعمرون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال الإسرائيلي 5 أيام في الأسبوع، وفي السنوات العشر الأخيرة بدأوا بأداء صلوات علنية صامتة أثناء اقتحاماتهم، وصولا إلى أداء طقوس تلمودية، ورفع علم دولة الاحتلال داخله.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي الشامل على شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، تسارعت الهجمة الاحتلالية الاستعمارية على المدينة ومقدساتها ومواطنيها الفلسطينيين.
وخلال الأشهر الأولى من العدوان على قطاع غزة، أغلق الاحتلال المسجد بشكل شبه كلي أمام المصلين، وما زال يفرض قيودا على دخول المصلين إلى المسجد. كما اقتحمت شرطة الاحتلال المسجد عدة مرات في غير أوقات اقتحامات المستعمرين، خصوصا خلال صلاة الجمعة، لتعتدي على المصلين والمعتكفين بداخله. وباتت تتعمد اقتحام المسجد بزيّها العسكري الرسمي، ونصبت برجا للتجسس أعلى المدرسة التنكزية المطلة على ساحات المسجد، يضم كاميرات مراقبة وأجهزة تنصت ولواقط صوتية ترصد ذبذبات المصلين، كذلك نصبت قوات الاحتلال كاميرات مراقبة جديدة في محيط المسجد الأقصى عند بابي الأسباط والمطهرة، وقرب مئذنة باب السلسلة.
كما نصبت قوات الاحتلال حواجز حديدية متنقلة عند باب الأسباط بعد أيام من نصب مكعبات اسمنتية عند هذا الباب من الخارج ومدخل مقبرة باب الرحمة. وقامت بتركيب أسلاك شائكة على سور القدس المحاذي للمسجد الأقصى من جهة باب الأسباط، ونصبت أقفاصا حديدية على ثلاثة أبواب للمسجد وهي: باب الملك فيصل والحديد والغوانمة.
وخلال شهر رمضان الأخير، منعت عناصر شرطة الاحتلال طواقم ومتطوعي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني من الدخول إلى باحات الأقصى لتقديم خدماتها الإنسانية والإسعافية للمصلين.
ولم تقتصر اعتداءات الاحتلال على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية، بل طالت أيضًا المقدسات المسيحية خاصة كنيسة القيامة، والاعتداءات على رجال الدين المسيحيين والمصلين خلال سبت النور وأحد الشعانين، بالإضافة إلى الضرائب التي تفرضها على الكنائس، والاستيلاء على أملاكها.
التفكجي: ما يجري في القدس هو مرحلة متقدمة من عملية تهويدها
خبير الخرائط في بيت الشرق والباحث في قضايا الاستعمار، خليل التفكجي، قال لـ"وفا" إن "ما يجري في مدينة القدس هو مرحلة متقدمة من عملية التهويد والدمج بين القدس الشرقية والغربية، ومنذ احتلالها بدأت إسرائيل ببناء المستعمرات والاستيلاء على الأراضي والأملاك، وبنفس الوقت إقامة المؤسسات السيادية داخل القدس لتحويلها إلى مدينة غير قابلة للتقسيم".
وأضاف أن الاحتلال ومنذ الانتفاضة الثانية عام 2000، بدأ بالسيطرة على كل شيء في المدينة، بما في ذلك التعليم ومحاولات فرض المناهج الإسرائيلية في مدارس المدينة، وإنشاء البنى التحتية من أنفاق وجسور التي تربط بين أحياء القدس الشرقية والغربية، وإقامة مؤسسات سيادية إسرائيلية مثل "التأمين الوطني" و"قيادة الشرطة" و"وزارة الداخلية" وغيرها.
وأشار إلى أن الاحتلال ينفذ اليوم مجموعة من المشاريع الاستعمارية لإقامة المناطق الصناعية الصغيرة سواء كانت في وادي الجوز الذي يطلق عليه "وادي السليكون" وفي صور باهر وجبل الزيتون والطور والعيسوية.
وفيما يتعلق بمحاولات الاحتلال المتواصلة لطمس هوية البلدة القديمة، لفت التفكجي إلى أن الاحتلال يركّز على البلدة وما حولها، ضمن مخططات لتغيير معالمها.
وبين أن الاستعمار الإسرائيلي في القدس يجري تحت الأرض وفوقها وحتى في الفضاء، وعلى سبيل المثال بدأ الاحتلال بإقامة بؤر استعمارية في بلدة سلوان، قبل أن يحفر أنفاق في المنطقة، تلا ذلك قضية "التلفريك" الاستعماري، وهذا يندرح في إطار سعيه ليقول للعالم أن "القدس هي العاصمة الأبدية له وهي الرأس والقلب للشعب اليهودي".
وتطرق تفكجي إلى تخصيص الاحتلال مليارات الشواقل لمخططات تهويد المدينة، وذلك عبر تطويق القرى والبلدات الفلسطينية بالمستعمرات وفصلها عن بعضها البعض وإقامة بؤر استعمارية داخل الأحياء الفلسطينية، كما جرى ويجري في بيت صفافا وسلوان وشعفاط والشيخ جراح، متذرعا بالقوانين الإسرائيلية التي تقر لخدمة أهدافه من جانب، ولمنع إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
وأكد أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول فرض أمر واقع على الأرض بأن القدس لن تصبح بأي شكل من الأشكال قابلة للتقسيم.
وتحدث التفكجي عن استخدام المستعمرين للدين لدوافع سياسية، خلال الاقتحامات، والرقصات العلنية داخل المسجد الأقصى المبارك للمرة الأولى، واستهداف المواطنين الفلسطينيين في البلدة القديمة، مشيرا إلى أن أعداد المقتحمين للبلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك تزايدت من بضع عشرات إلى عشرات آلاف المستعمرين.
الحموري: المقدسيون متمسكون بمدينتهم
مدير مركز القدس للشؤون الاجتماعية والاقتصادية زياد الحموري قال لـ"وفا" إن "القدس من ناحية جغرافية تم تهويدها بشكل شبه تمام، والاحتلال ربط كل مستعمرات القدس الشرقية والغربية مع بعضها البعض والمخطط المستقبلي هو تصفية الوجود الفلسطيني البشري في المدينة المقدسة".
وأضاف أن ما تسمى "مسيرة الأعلام" الاستفزازية التي جرت بالأمس، شهدت اعتداءات يسعى الاحتلال لتكريسها، كما يحاول الاحتلال كسر أي ترابط بين المواطنين المقدسيين ومدينتهم، ويبعث برسائل من خلال هذه المسيرات والاقتحامات للمجتمع الفلسطيني في القدس عبر استباحة أحياء المدينة واقتحامها واقتحام المسجد الأقصى.
وتابع أن "الاحتلال وضع أعلام في كل شوارع القدس وعلى البيوت والسيارات لإشعار القادم للقدس أنها يهودية"، مشيرا إلى أن الاحتلال يهدف من كل هذه التغيرات والمعالم ووضع الكاميرات والمجسات ومراقبة كل ما يحدث في القدس إلى تهجير المقدسيين من مدينتهم.
وشدد الحموري على أن صمود المواطنين المقدسيين وتمسكهم بمدينتهم، أفشل مخططات الاحتلال في تهويدها، حيث لا يستطيع الاحتلال التغلب على الواقع الديمغرافي في القدس، حتى لو استطاع تهويد الواقع الجغرافي عبر المستعمرات والجدار والحواجز العسكرية.
وأشار إلى أن المشهد في الضفة الغربية، خاصة في القدس، من احتلال واستعمار، مؤلم وصعب ومعقد جدا، مؤكدا أهمية دعم صمود المقدسيين في مدينتهم، سياسيا واقتصاديا.
وفي السنوات الأخيرة، تضاعف عدد المستعمرين في الضفة الغربية إلى 800 ألف مستعمر، من بينهم 230 ألفا في القدس المحتلة. كما يواصل الاحتلال الإسرائيلي الاستيلاء على مزيد من الأراضي وتهجير المواطنين الفلسطينيين قسرا من منازلهم في المناطق المسماة "ج"، لبناء المستعمرات وتوسيعها وتنفيذ المشاريع الاستعمارية من طرق وجدران وغيرها.
ورغم الإدانات الأممية والدولية المتكررة للانتهاكات الإسرائيلية في القدس وتأكيدها على ضرورة الحفاظ على الوضع القائم في القدس ومقدساتها، إلا أن الاحتلال يعمل على أرض الواقع يوما بعد يوم على خرقه، ضاربا بعرض الحائط كعادته كل الاتفاقيات والقوانين الدولية.