لـســـت وحــــدك
بقلم: د. عاطف أبو سيف
ينتظر كيري اجابات على مقترحاته المكونة لما يعرف خطة كيري. وكلما اقتربت فترة نهاية "الحمل" فإن كيري يبدو متوتراً هو وإدارته خشية عدم التمكن من تحقيق اختراق تاريخي يضاهي ذلك الاختراق الذي تم في أوسلو.
ورغم التفاف كيري نحو تل أبيب حيث بعض المواقف التي بالطبع ستقرر، أيضاً، مصير خطته ومستقبلها خاصة تلك الصادرة عن حلفاء نتنياهو في الائتلاف الحكومية أمثال ليبرمان وبينيت، فإن عيون كيري كما أذنيه تلتقط أي إشارة صادرة عن المقاطعة حيث الموقف الفلسطيني. وحده هذا الموقف يحدد إذا ما كان كيري سينجح أم سيفشل، ووحدهم الفلسطينيون من يستطيعون أن يقرروا إذا ما كان هذا اللاعب والدبلوماسي المحترف سيواصل المباراة أم أنه سيخرج قبل إطلاق الصافرة، وربما وحدهم من سيقررون إذا ما كان ثمة شوط إضافي لعل اللعبة تصل الحسم.
وفي كل ذلك الكثير من المغالطات رغم كل شيء. صحيح أن الموقف الفلسطيني هو الموقف الحاسم، وصحيح أن ما سيقوله الفلسطينيون سيكون له تأثير كبير على جهود كيري وفرص نجاحها، لكن ثمة حقيقة واحدة أهم من ذلك تقول إن الأمر يتعلق بالحقوق الفلسطينية وليس بأي شيء آخر. وعليه فإن الموقف الفلسطيني ليس هو من يقرر نجاح وفشل السيد كيري، والموقف الفلسطيني ليس السكينة المسلطة على رقبة جهوده ومحاولاته، وعليه فإن هذا الموقف لا يمكن تحميله مستقبل هذه الجهود ولا مصيرها حتى لا نقع ضحية الماكينة الإعلامية التي بدأت إسرائيل وأنصارها في العالم بتسويقها.
إن من يقرر مصير جهود كيري هو كيري نفسه وليس الفلسطينيون. إن كيري يستطيع أن يقرر إذا ما كانت جهوده ستنجح أم ستفشل. لأن هذا النجاح والفشل مربوط بطبيعة هذه المقترحات وليس بحقيقة تمسك الفلسطينيين بحقوقهم. فالموقف الفلسطيني الذي يقوله الرئيس محمود عباس صراحة يعبر عن حقيقة المصالح الفلسطينية وليس عن المواقف الأميركية. فالموقف الفلسطيني هو موقف الشعب الفلسطيني وليس موقف السيد كيري. وعليه فإن هذا الموقف ليست ترجمة لرغبات كيري بتحقيق السلام بل هو تطلع الفلسطينيين لنيل الحد الأدنى من حقوقهم والحفاظ على ما تبقى من أرضهم وإقامة دولتهم بعد أن صاروا آخر الشعوب المحتلة في العالم، الذي لا يخجل من حقيقة الاحتلال الذي ينتهك إنسانية المجتمع الدولي.
فبالقدر الذي يرغب الفلسطينيون في السلام، بالقدر الذي يجب على هذا السلام أن يكون سلاماً حقيقياً وليس مجرد تسوية غير عادلة. لذا فإن إحلال السلام مرهون بقدرة السلام على أن يكون عادلاً. لأن الجلاد يمكن له أن يفرض على الضحية سلامه الخاص الذي يذعن فيه الضحية لسياط الجلاد ويقبل حقيقة استعباده وتضييع حقوقه، وربما وقّع بقبوله على هذا وعلى الكثير من الشروط. والتاريخ مليء بالشواهد التي تدلل على أن السلام ليس بالضرورة أن يكون عادلاً. إن ما يبحث عنه الفلسطينيون هو القليل من العدل، العدل الممكن وليس العدل المأمول. إن مجرد جلوس الفلسطينيين على طاولة واحدة مع جلادهم ومغتصب أرضهم ومصادر حقوقهم هو بحد ذاته تضحية كبرى يقوم بها الفلسطينيون الباحثون عن العدل وعن الحرية التي لا يمكن للسلام أم يتحقق بدونهما. إن هذين المركبين والعنصرين غائبين عن خطة السيد كيري. والسيد كيري الذي يحترف البلاغة ويبرع في "تصفيط" الكلام وإخراج التشابيه والكنايات والإحالات المشتهاة للسلام المرغوب، فقد أهم شيء كان يمكن له أن يبحث عنه خلال فترة الشهور التسعة الماضية، وفيما تبقى من فترة المفاوضات حتى نهاية نيسان، إن هذا العدل الذي يقبل الفلسطينيون بملعقة صغيرة منه ولا يريدون القِدر كله، إنه الحرية التي تبحث عنها عيون المزارعين الفلسطينيين وهم يحرثون أرضهم في الغور أو في رمانة في جنين. إنها الحرية التي لم يعان السيد كيري من الحرمان منها يوماً.
إن ما يقدمه السيد كيري لا يعترف بالحرمان الفلسطيني ولا يبحث عن تعويضه. لذا فإن تلك المواقف الهادئة التي عبر عنها الرئيس محمود عباس في لقاء باريس الذي وصف بالعاصف خلال لقاء كيري ليست إلا تعبيراً عن هذا التوق الفلسطيني للعدل. يمكن للأميركيين أن يغضبوا ولكن هذا الغضب مصدره ليس الموقف الفلسطيني بل إنه نابع من عجز اميركي داخلي عن تلمس أصل الصراع العربي الإسرائيلي الكامن في مصادرة الحقوق الفلسطينية والسطو على الاستقلال الفلسطيني وسرقة الحرية الفلسطينية.
فالرئيس محمود عباس ليس وحيداً حين عبر عن اعتراضه على ما يقول كيري؛ إنه ذات الموقف الذي يقوله الأطفال في مخيم جباليا وعين الحلوة والجلزون، كما يعبر عنه هذا الالتفاف الشعبي خلف تلك المواقف التي تعبر عن حقيقة الروح الفلسطينية. إن الصوت الشعبي يقول للرئيس : إننا معك. نحن شعب يريد السلام ولكننا نريد معه العدل والحرية، فالثوابت الفلسطينية التي تشمل القدس واللاجئين لا يمكن أن يتحقق الاستقلال دونها.
ثمة شيء أخير يخص ما يعرف بالمعارضة الفلسطينية، التي يفوتها الآن تحديداً الوقوف عند مسؤوليتها ودعم الرئيس أبومازن في مواقفه التي دللت أن الرجل طوال تسع سنوات من حكمه كان صادقاً حين قال إنني مع الثوابت، اما الكثير من المعارضة فإن الثوابت عندهم هي "المعارضة" ذاتها. كان عليهم – وثمة وقت بعد- أن يخرجوا ليقولوا لأبي مازن : نحن معك. كان يجب أن تخرج المظاهرات في غزة تحديداً – حيث تقول إسرائيل إنها خارج النقاش- لتقول غزة للعالم: نحن مع أبي مازن، وان هذه المواقف هي مواقفنا. ثمة حاجة لاسناد شعبي جماهيري للموقف الفلسطيني الرسمي حتى يسمع العالم بأن الرجل ليس وحيداً، وأنه يمثل تلك الجموع التي تخرج لتقول له "لست وحدك".
على أي حال فإن الشيء الوحيد المؤكد بأن الرئيس عباس ليس وحده في مواقفه، حيث أن ثمة إجماع وطني على هذه المواقف التي يعبر عنها بالتزام وحرص.