الدرويش
الحياة الجديدة/ حافظ البرغوثي
الشاعر المتأمل في الماضي والمستقبل.. المنعزل في ملكوته المبتسم في وجوه الآخرين.. القانع في نفسه.. الفائق في دهشته.. كأنما انجبه امرؤ القيس.. وتعهده بالرعاية المتنبي.. فهو امتداد لهما وان اختلف في الاسلوب.. المتنبي هو الآخر فيه من امرىء القيس.. والسياب فيه من الاثنين والدرويش هو العلامة المميزة في الشعر المعاصر بعد السياب, وان طور ادواته الفنية طبقا للبيئة المحيطة.. فحتى درويش طور نفسه على مراحل.. وافتتح مدارس شعرية وتركها وفقا لحالته النفسية الشعرية كأنما تسلق ناطحة سحاب شعرية في كل طابق منها قال ما قال.. وتصاعد حتى اطل على السحاب في قممها ونقل احاسيسه ومشاعره وكلماته بطريقة كونية, وظل القاؤه المميز حاسما في بث الحياة في كلماته.. فالكلمة التي يقولها بصوته لها وقع خاص مختلف.
في ذكرى غياب الدرويش نراه يردد احمد الزعتر في الشجاعية ورفح ومعزوفته الخروج من ساحل البحر المتوسط وعتيق القدس وجديد الشوارع الضيقة في رام الله.. لم يعشق من الاماكن سوى قريته الضائعة.. لكن ألف بيروت اكثر من غيرها وتمدد في باريس ذات فترة.. وانزوى في عمان يعزف اوتاره وحيدا, وتألق في رام الله لكن اناقته كانت ملكه لا يظهرها للعامة الا نادرا.. فهو صب اناقته في حروفه وطريقة انتقائها كما يفعل صاقل الماس.
ما الذي تفعله في غرفتك الآن منذ ساعات ظننتك في الخارج؟ سألته في رحلة خارجية ربما هي الأخيرة قبل رحلة تناثر الكوليسترول في القلب فقال في الغرفة, وما تفعل؟ لا شيء, جاء من غرفته الفندقية.. الى بهو الفندق.. اختار مكان قصيا وطلبنا قهوة.. لا مانع ان تدخن امامي.. مع ان القهوة ملازمة للسيجارة.. عندما يهجر الشاعر السيجارة فقد نصف مزاجه, وعندما يهجر القهوة فقد الآخر, بات مزاجه هو مزاج جمهوره.. عندما كان يرى حضوره الكثيف كان يتسلق السحاب بصوته والتفاتته المميزة. مؤدب كان يتصرف كأرستقراطي هذب نفسه واحسن هندامه. ورتب اوراقه.. ظل في حالة كبرياء حتى رحل.. فخور بجمهوره وامسياته.. يتحدث عنها بعرفان.. كأنما يرد الجميل.. ظل المحمود نقيا في ملكوته الخاص حتى استوى على ربوة قرب المركز الثقافي الذي صدح فيه بآخر قصائده لاعب النرد كأنما يودع.. ودع بعد بقليل.. وهنا اذكر قصيدته عن غزة الخروج من ساحل البحر المتوسط.. كأنما كتبها الآن في غزة وهو يتجول بين جثامين الشهداء وانقاض المنازل التي طالها العدوان.
ارى صفا من الشهداء يندفعون نحوي, ثم يختبئون
في صدري ويحترقون
ما فتك الزمان بهم, فليس لجثتي حد.
ولكني احس كأن كل معارك العرب انتهت في جثتي, واود لو تتمزق الأيام في لحمي ويهجرني الزمان
فيهدأ الشهداء في صدري
ويتفقون ما ضاق المكان بهم,
فليس لجثتي حد, ولكن
الخلافة حصنت سور
المدينة بالهزيمة, والهزيمة
جددت عمر الخلافة.