حتّى يكونَ المؤتمرُ الدّوليُّ طريقَ الانتصار
وكالة معاً
أعلن صائب عريقات بأن القيادة الفلسطينيّة بدأت بتحركات عربيّة وإقليميّة ودوليّة من أجل عقد مؤتمر دولي، هدفه إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينيّة مستقلة وفق سقف زمني محدد تضمنه الأطراف الدوليّة المختلفة.
إن هذه التحركات مفترض أن تكون ضمن إستراتيجيّة جديدة حتى تحدث تحوّلًا نوعيًا سينقل القضيّة الفلسطينيّة من حال إلى حال. ونأمل ألا تكون مجرد تقطيع للوقت ولعب بالوقت الضائع إلى حين نضج الظروف لاستئناف المفاوضات الثنائيّة، أي مجرد تكتيك للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل، مثل التهديدات بحل السلطة وبالمقاومة الشعبيّة وبالانضمام إلى محكمة الجنايات الدوليّة وبالمصالحة الوطنيّة؛ من أجل إحياء المفاوضات الفلسطينيّة – الإسرائيليّة.
يجب أن يكون الوضع بعد العدوان وجرائم الحرب والإبادة البشريّة ضد قطاع غزة مختلفًا عمّا كان قبله. فما كان مجرد خطأ أو خطيئة قبل العدوان، مثل الاستمرار في عمليّة سميت "عمليّة سلام" بالرغم من أنها صممت لقطع الطريق على السلام وجاءت لخدمة إسرائيل ولاستمرار وتوسيع احتلالها واستيطانها وعدوانها وعنصريتها ضد الفلسطينين أينما كانوا؛ أصبح بعد العدوان الأخير جريمة لا تغتفر، فلا يمكن التعامل مع إسرائيل المجرمة مثلما تم التعامل معها حتى الآن، فهي غارقة بالدماء الفلسطينيّة، وتجاوزت كل الاتفاقات والالتزامات السابقة، وقضت على أي أمل بالسلام، وتزرع بذور الحرب والدمار والموت بإطلاق يد قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين لتعيث خرابًا وفسادًا في عموم الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، وخصوصًا في القدس.
حتى تكون الدعوة إلى المؤتمر الدولي جادة ويأخذها العالم على محمل الجد، يجب أن تكون جزءًا من مقاربة جديدة مختلفة تمامًا عن المقاربات المعتمدة حتى الآن، تتضمن إستراتيجيات متعددة تتكامل مع بعضها البعض، وتصبّ كلها في مجرى قادر على إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينيّة المستقلة على حدود 67، بما فيها القدس، وإنجاز حق العودة والتعويض للاجئين وإطلاق سراح الأسرى.
إن هذه الإستراتيجيات يجب أن تستند أولًا وأساسًا إلى وحدة وطنيّة صلبة وشراكة سياسيّة حقيقيّة تحتمها المخاطر والقواسم المشتركة. هذه القواسم التي سيكون من الممكن الاتفاق عليها أكثر من محتمل بعد العدوان الإسرائيلي الأخير ومغزاه وأبعاده، وبعد الوحدة الميدانيّة في مواجهته، والوحدة السياسيّة المتجسّدة بتشكيل وفد فلسطيني موحد يتبنى مطالب المقاومة.
إذا تبنت القيادة الفلسطينيّة هذه المقاربة الجديدة فإنها ستكون بمستوى التحديات والمخاطر التي تهدد القضيّة الفلسطينيّة، من خلال المسارعة إلى تنفيذ دعوتها بعقد الإطار القيادي المؤقت للانعقاد، بحيث يكون القيادة الفعليّة الذي تعتمد قراراته من المؤسسات الشرعيّة في منظمة التحرير إلى حين إجراء انتخابات المجلس الوطني وتشكيل المؤسسات الوطنيّة في ضوئها، وإذا لم تتبناها فستسقط غير مأسوف عليها.
يمكن أن تضم الإستراتيجيات المطلوبة ما يأتي:
- إستراتيجيّة المقاومة بكل أشكالها، بما فيها السلميّة والشعبيّة والمسلّحة، التي تستند إلى الحقوق الفلسطينيّة وإلى القناعة بأنه من دون تغيير جدي في ميزان القوى لا يمكن إنهاء الاحتلال، وإلى القانون الدولي الإنساني الذي يجيز المقاومة المسلحة للاحتلال ويحرّم استهداف المدنيين، وإلى تواصل وغنى المقاومة الفلسطينيّة المستمرة منذ حوالي مائة عام، وإلى مرجعيّة وطنيّة واحدة تحدد أشكال المقاومة المناسبة لكل مرحلة ولكل تجمع فلسطيني، بما في ذلك إمكانيّة الجمع بين أكثر من شكل كفاحي في نفس الوقت، والاستعداد لاندلاع الانتفاضة الثالثة التي بدأت إرهاصاتها بالظهور، كما تجلّى ذلك في الهبّات الشعبيّة المناصرة لغزة، والعمل على توفير مقومات انتصارها، وهي: القيادة، والتنظيم، والهدف القابل للتحقيق، والوقت المناسب، وتوفير مقومات الصمود الكفيلة بجعل الجماهير قادرة على تحمل تبعاتها، وضمان عدم انزلاقها إلى الفوضى والفلتان الأمني.
- مراجعة التجارب السابقة واستخلاص الدروس والعبر، التي أهمّها وَهْم تصوّر التوصل إلى تسوية تحقق حتى الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة بالرهان على المفاوضات الثنائيّة كطريق وحيد وعلى الرعايّة الأميركيّة الانفراديّة، ووهم أن إستراتيجيّة الكفاح المسلح وحدها قادرة على الانتصار. فالمقاومة تزرع والسياسة تحصد، ومن لا يزرع لا يحصد.
إن الكارثة التي نعيشها ناجمة عن إلقاء أوراق القوة الفلسطينيّة واستبدالها بحسن النيّة والأمنيات والمناشدة، وتقديم التنازلات وتطبيق الالتزامات الواردة في "اتفاق أوسلو" و"خارطة الطريق" من جانب واحد، والغرق في بناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال في اختبار لا ينتهي لإثبات الجدارة، وعن "السلام الاقتصادي" الذي أصبح تحصيلًا حاصلًا ما دامت نتيجة الإستراتيجيّة المعتمدة فعليًا هي تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال، وتحوّل السلطة من أداة انتقاليّة لدحر الاحتلال وإقامة الدولة إلى وكيل أمني له.
حتى تكون المقاربة الجديدة قادرة على تحقيق الأهداف الفلسطينيّة لا بد وأن تشمل تجاوزًا فعليًا لالتزامات "اتفاق أوسلو"، من خلال التخلي عنها مرة واحدة أو على دفعات، على أساس إعادة النظر بشكل السلطة ووظائفها والتزاماتها، خصوصًا بعد حصول الفلسطينيين على اعتراف دولي بدولتهم، فيمكن أن تكون البداية بوقف التنسيق الأمني، ثم إلغاء "اتفاقيّة باريس" الاقتصاديّة، وتنتهي بسحب الاعتراف بإسرائيل في سياق شنّ حملة في الأمم المتحدة لسحب الاعتراف بها وفرض العزلة والعقوبات عليها.
في هذا السياق لا بد من استكمال توقيع الاتفاقيات الدوليّة والانضمام إلى الوكالات الدوليّة، خصوصًا محكمة الجنايات، كونها سلاحًا رادعًا للجرائم الإسرائيليّة القادمة، ولملاحقة قادة إسرائيل العسكريين والمدنيين على جرائمهم السابقة واللاحقة والمستمرة مثل الاستيطان والتهجير والإبعاد.
- إستراتيجيّة المقاطعة الشاملة، السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والأكاديميّة، وما تضمنه من وقف التطبيع مع إسرائيل، وجعل احتلالها مكلفًا لها وليس احتلال سبع نجوم. وهذه الإستراتيجيّة تقتضي تغيير الخطاب السياسي والإعلامي الفلسطيني من خطاب سياسي إلى خطاب حقوقي على أساس أن الحقوق لا يتم التفاوض عليها وإنما تُلبى.
- إستراتيجيّة استعادة البعد العربي والإسلامي والتحرري الإنساني للقضيّة الفلسطينيّة بما يساعد على الانخراط العربي في حل القضيّة الفلسطينيّة، لأن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني يهدد جميع العرب ومنطقة الشرق الوسط والأمن والسلام في العالم بأسره، وبما يؤدي إلى تعاظم حركة التضامن الدولي، بحيث تصبح قادرة على فرض مطالبها على الحكومات المؤثرة على القرار الدولي، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة.
إن الدعوة إلى المؤتمر الدولي تسدّ ثغرة كبيرة جدًا، ظهرت واضحة في الانشغال الكامل بوقف العدوان وإنهاء الحصار والإعمار والمعابر والمطار والميناء وعدد الشاحنات التي ستدخل يوميًا إلى قطاع غزة، وإهمال معالجة جذور وأسباب ما جرى وما يمكن أن يجري وهو الاحتلال، إذ
إن كل ما يمكن تحقيقه سيكون معرضًا للعدوان الإسرائيلي القادم، ما يتطلب ربط الجهود لوقف العدوان وإنهاء الحصار والإعمار بإيجاد عمليّة سياسيّة جادّة قادرة على إنهاء الاحتلال.
إن من أهم إنجازات المقاومة في الحرب الأخيرة أنها أعادت القضيّة الفلسطينيّة إلى الصدارة، وأظهرتها على حقيقتها بوصفها قضيّة تحرر وطني، ووحدت الشعب الفلسطيني ومختلف قواه على موقف واحد، وهذا يفتح الطريق لاعتماد مقاربة أخرى وليس الاستمرار في إعادة إنتاج المقاربات السابقة الفاشلة.
إن عقد المؤتمر الدولي مهم جدًا، ولكنه وحده لا يكفي إذا لم يكن ضمن الإستراتيجيات المشار إليها، وعقده ليس سهلًا ولكنه الطريق الذي يجب السير فيه للاعتراض على محاولات استئناف المفاوضات الثنائيّة، مع أن من شروط نجاحه إغلاق طريق المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة إلى الأبد، ورفض أي محاولة لعقد مؤتمر دولي شكلي، لكي يكون غطاء ومدخلًا للعودة إلى المفاوضات الثنائيّة.
المؤتمر المطلوب يجب أن يكون مستمرًا وفي إطار الأمم المتحدة، وضمن جدول زمني قصير، ويستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لتطبيقها وليس للتفاوض حولها، وليس إلى الاتفاقات السابقة وإلى ما وصلت إليه المفاوضات التي هبطت بالسقف التفاوضي الفلسطيني، من خلال كل التنازلات المجانيّة التي قُدّمت من دون مقابل من إسرائيل.