في استعراض الجنرال نورمان شوارزكوف للقوات المشاركة في الهجوم على العراق عشية انطلاق "عاصفة الصحراء" كان عليه أن يرد تحية ضباط عرب كثيرين، وقفوا باعتداد، يحسدون عليه، تحت رايات أنظمتهم لتحية القائد الأميركي. لقاءات مدريد كانت استعراض "بيكر" السياسي في الصالة بينما في القبو كانوا يضعون نص اتفاق "أوسلو"، كان، الاتفاق، أقرب الى حادث سير عنيف تسببت به فوضى عارمة، التسونامي الذي تبع زلزال "عاصفة الصحراء" وحبس العراق في قفص مناطق "حظر الطيران". تلك هي لحظة "أوسلو" التي تم الإعداد لها طويلاً، تهافت النظام العربي، بما فيهم أولئك الذين أصبحوا "ممانعة" فيما بعد، وحماقات الديكتاتور العراقي الذي أثخن شعبه بحروب كان يمكن تفاديها، وغزوات صبيانية تقودها بلاغة قومية متهالكة ونزعات ذكورية بائسة، ونظام أمني مرعب بينما "رفاقه" من القوميين الأكثر دهاء، الأسد الأب ومبارك على سبيل المثال، كانوا "يصافحون الأعداء وينامون في المعسكر الآخر"، التعبير لمظفر النواب، خارج النافذة كان الاتحاد السوفييتي يذوي وكانت عملية تجفيف موارد منظمة التحرير قد وصلت الى العنق. ياسر عرفات كان وحيداً هناك في تونس، وحيداً تماماً، كما كان وحيداً في حصار بيروت وهو يقاتل ويفاوض، وكما كان وحيداً في المقاطعة في رام الله وفوهة "الميركافا" على مخدته، بينما يمسك بكلتا يديه سلم النجاة الذي ألقاه له شعبه في انتفاضتهم الكبرى، على ذلك السلم اتكأ ياسر عرفات. تلك هي لحظة "أوسلو"، الخيار الثاني كان تبديد المشروع الوطني الفلسطيني برمته. لا أحد يرغب في مديح "أوسلو" الذي كان محصلة انهيار عربي، حتى أولئك الذين وضعوا أسماءهم الرباعية في قوائم الراغبين في العودة الى بلادهم، كثيرون منهم كانوا يدركون جيدا انه اتفاق رديء، ولكنه ليس نهاية المطاف وان ثمة على الأرض هناك مكاناً للمقاومة والاعتراض واعادة البناء، ومن بين هؤلاء كان ياسر عرفات نفسه، الذي أصر على إضافة اريحا لاقتراح "غزة أولا" في ربط واضح مع الضفة الغربية حيث المواجهة الاستراتيجية مع الاحتلال، كان الممر الآمن الذي يصل الضفة بغزة هاجسه الحقيقي وأولويته تماما كشرطي الميناء والمطار. بنفس الطريقة والعناد التفاوضي عندما أصر، تحت النار، على أن يخرج المقاتلون بسلاحهم من بيروت، في اشارة واضحة الى ان المقاومة لم تنكسر. أفكر في هذا بينما اتابع ما يتسرب من غرف المفاوضات في القاهرة بين الوفد الفلسطيني الموحد والمفاوض الاسرائيلي، والسعي الذي لم يتوقف في تعريف التهدئة الانسانية ووقف اطلاق النار، بين أهمية الميناء وضرورة المطار واطلاق سراح الأسرى، بين مناطق الصيد وحسبة أميالها بحريا، بين عدّ الأمتار في المنطقة العازلة... الى آخر هذه التسريبات. في عبث المصطلحات هذا، يجد فصائليون جنتهم السياسية حيث تتدفق نرجسيتهم وهم يواصلون شرح الفروق ويوضحون القياسات، فصائليون يستعيدون نزعتهم الحزبية كاملة مجرد وقوفهم أمام الكاميرات، متحدثون تختفي فلسطين من تصريحاتهم ويحل مكانها اسم الفصيل ومزاياه، تماما كما يفعل مناصروهم في المسيرات عندما يتجاهلون العلم الوطني أمام راياتهم الحزبية. الانقسام تحول الى ثقافة في بلادنا، ثقافة تقترح سلوكها وقيمها ومظاهرها، هذه الثقافة البائسة هي التي بررت بقاء ياسر عرفات وحيدا في المقاطعة، وهي التي لا تضع مطلب الممر الآمن بين غزة والضفة كخط أحمر، وتستبدل هذه الأولوية بمطالب أخرى تخص مصالح الفصيل، وكأن المطلوب من فلسطين وغزة على وجه الخصوص، رفع الحصار عن "الإخوان المسلمين" وليس عن قطاع غزة. |