المفاوضات.. من عبد السلام ... الى عزام
وكالة معاً
كأن التاريخ الحديث يعيد نفسه على نحو مبكر...
قبل مؤتمر مدريد، كنا نجري محادثات غير مباشرة مع اسرائيل بواسطة اطراف ثالثة كثيرة، وبعد مؤتمر مدريد، اجرينا في واشنطن محادثات مباشرة، ولكن تحت غطاء اردني في الوفد الموحد الذي قاده السياسي الاردني المخضرم عبد السلام المجالي، وتحت مفاوضات واشنطن الاستعراضية، جرى فتح نفق سياسي تحت الارض، أدى الى اتفاق تاريخي فلسطيني اسرائيلي ما زال يعرف حتى الان باتفاق اوسلو.
وبعد اكثر من عقدين من الزمن ... وبعد اكثر من مائة الف ساعة حوار ومفاوضات مع الاسرائيليين، برعاية اكثر من طرف عربي ودولي، وصلنا الى ما نحن فيه الان... فبدل عبد السلام المجالي اوفدنا عزام الاحمد، مع فارق بسيط ان وفد مدريد كان يسمى بالوفد الاردني الفلسطيني المشترك، اما وفد عزام فاسمه الوفد الفلسطيني الفلسطيني المشترك.
ورغم الغطاء الهام، الذي وفرته فتح لحماس كي تدخل القاهرة، وتفاوض مصر وإسرائيل، الا ان حقيقة الامر تقول بأن وفد القاهرة الذي اشدنا به وتظاهرنا في الشوارع من اجل دعمه، كان يتلقى تعليماته من نفق في غزة، مثلما كان وفدنا ايام واشنطن يتلقى تعليماته من فلل انيقة في تونس.
ورغم اختلافنا على كل صغيرة وكبيرة تتعلق بمفاوضاتنا المباشرة وغير المباشرة مع اسرائيل ، الا ان احد اهم المحصلات الايجابية لكل هذه المفاوضات تتجسد في اننا تلقينا دورات تدريبية مهمة في الحوار مع الإسرائيليين سرا او علنا، ومن المفترض ان نكون استفدنا من هذه الدورات لمعرفة كيف يتصرف الاسرائيليون في امر المفاوضات على الطاولة وصياغة الاتفاقات وتطبيقها على ارض الواقع .
الاسرائيليون يعملون اولا على خلق وقائع على الارض تساعد مفاوضهم كي يظل صاحب الكلمة العليا على الطاولة ، وحين تمضي مفاوضات الطاولة في سبيلها يجهد الاسرائيليون انفسهم في التأثير على الصياغة، حريصين على تضمين مطالبهم كاملة في الاتفاق وان لم يستطيعوا ذلك فيلجئون الى نصوص تسمى بحمالة الاوجه ، وذلك كي يحققوا في التطبيق على الارض ما لم يحققوه صراحة في النص، وهذه الطريقة في التعاطي مع الاتفاقات والتفاهمات ، مكنت اسرائيل اخيرا من بسط سيطرتها علينا ، ولكل مكان وسيلة خاصة به في السيطرة ...
الضفة يعاد احتلالها عسكريا وامنيا بصورة مباشرة وصريحة وفظة، اما غزة فتتم السيطرة عليها بالنار والحصار ويضاف على ذلك الان استحقاق اعادة الاعمار..
هكذا تعامل الاسرائيليون معنا سواء كنا نتفاوض على ادخال جرعة ماء الى مكان محاصر، او كنا نتفاوض على مصير الوطن والشعب في ما يوصف عادة بمفاوضات الحل النهائي.
مفاوضونا الشرعيون الثلاثة، المرحوم حيدر عبد الشافي ، الذي تشبث بمبدأ لا سلام مع الاستيطان وقضى دون هذا المبدأ ، والمفاوض احمد قريع الذي عبر النفق الذي شقه محمود عباس تحت الارض، ليصل اخيرا الى البيت الابيض لتوقيع الاتفاق، وبعد ذلك دخلنا في عهد صائب عريقات مؤلف كتاب الحياة مفاوضات، ثم ها نحن نعود الى صيغة الوفد المشترك، ولكن هذه المرة من اجل غزة وغزة فقط .
كل المفاوضات السابقة بما فيها مفاوضات غزة الان ، سجلت فشلا حتى لو بدا في حينه انها نجحت ، وكل المحللين الذين تناولوا مسيرة التفاوض بين الفلسطينيين والاسرائيليين ، تحدثوا عن استحالة نجاح أي مفاوضات فلسطينية اسرائيلية، بفعل ميزان القوى المائل بشدة لصالح اسرائيل ، ومع وجاهة هذا التحليل فان الاسلوب الاسرائيلي في التفاوض كما لمسناه في كل العهود هو احد العوامل الجوهرية في ظاهرة سهولة التوصل لاتفاقات وتفاهمات، مع استحالة تنفيذها بالمضمون الذي نراه كفلسطينيين ، فلقد برعت إسرائيل في تفريغ الاتفاقات من مضمونها، متخذة منها مجرد غطاء لسياساتها المضمرة، والمنفذة على مراحل فوق الارض ، وهذا ما ينبغي وعيه في كل مراحل التفاوض مع اسرائيل، ومن ضمنها المرحلة الراهنة التي عنوانها تهدئة طويلة الامد على جبهة غزة .
اننا عاجلا ام آجلا سنبرم اتفاقا او تفاهما حول غزة ، ولا اغالي لو قلت ان ابرام الاتفاق على صعوبته يظل خطوة واحدة من رحلة الميل التي سنبدأها على الارض ، ذلك ان كل بند في الاتفاق الذي قد يتم، سوف يحتاج الى جهد تفصيلي بالغ التعقيد لتطبيقه، وهنا استعين قولا للرئيس الراحل حافظ الاسد في وصفه لاتفاقات اوسلو، " ان كل بند في هذا الاتفاق يحتاج الى اكثر من اتفاق كي يصل الى نتيجة، وهذا امر مستحيل"
في حينه لم يعجبنا قول الرئيس الاسد وسجلناه على فاتورة صراعنا التنافسي معه، الا اننا اكتشفنا ان ما قاله كان صحيحا بالقياس لعذابات التفاوض طويل الامد مع اسرائيل.
انا لا انكر اننا وفي هذه المسيرة الطويلة ارتكبنا الكثير من الاخطاء، ووقعنا في حالات من سوء التقدير في الحسابات والمواقف والقرارات، الا ان اخطائنا التي كانت تصدر عنا كطرف اضعف في المعادلة، لم تكن هي المسؤولة الرئيس عن اخفاقات التفاوض مع اسرائيل، لان الاكثر مسؤولية دائما هو الطرف الاقوى والمحتل، وهو الطرف الذي يعتبر السلام مجرد قنطرة للعبور الى اهداف ما بعد الاحتلال، فهل وعينا الدرس بما يكفي، ام اننا سنواصل العمل وفق متطلبات اللحظة، وهذا افضل ما ترغبه اسرائيل وتستفيد منه.