لا بد من منطق جديد
الحياة الجديدة/ عدلي صادق
في الوجبة الأخيرة، من غارات العدوان، واصل المحتلون سعيهم الى تكريس إحساس الشعب الفلسطيني بالكارثة التي حلت بسكان قطاع غزة. ففي موازاة القصف المروّع، يعاني الناس من شُح في كل شيء، وباتت المياة والطبابة والخبز والكهرباء في أوضاع كارثية. كل ذلك ولم يكتف هؤلاء الذين لم يزجرهم أحد في العالم، ولم يتخذ طرفٌ ضدهم أية خطوات ردعية أو مضرية. أما الولايات المتحدة، وهي التي غيّرت مجرى السياسة الدولية بعد تدمير برجي التجارة في نيويورك؛ فقد تعاطت بعدم اكتراث حيال تدمير الوف البيوت والعمائر للآمنين في غزة، وحيال القنابل الضخمة التي أوقعت المصائب بشعب له الحق في الحرية والكرامة والاستقلال. أما إسرائيل، فإنها تتحاشى الآن، كل فكرة منطقية تساعد على التوصل لوقف إطلاق النار، بل إن متطرفي حكومتها قالوا ما معناه إنهم يريدون أن ترفع غزة الرايات البيضاء وتستسلم. لن يجرؤ أحد على أن يفعل ذلك، ولو فعلت المقاومة ذلك، مثلما مرّ في التاريخ مع الجيوش الكبيرة التي قاتلت ببسالة ثم استسلمت؛ فإن الشعب الذي انتج المقاومة، لن يكف عن ردود الأفعال ولا عن الأمل والإصرار على التمسك بحقوقه. وما السلوك الاسرائيلي الذي اعتمد أسلوب القتل والتدمير دون سواه؛ إلا النسخة الجديدة من النازية عار البشرية، التي آذت الشعوب والمجتمعات والناس الأبرياء.
وضع غزة الآن لا يحيط به وصف ولا تغطيه كل كاميرات التلفزة والصحافة. مئات المآسي تتشكل وتضرب عميقاً في أرواح الناس. وكيف يراد لهؤلاء الذين مارسوا كل هذا الإجرام أن يعيشوا بيننا في المنطقة. إن المعتوهين الذين يدفعون كل أسلحتهم الى صب النيران على غزة، لا يفهمون سنن التاريخ ولا يعرفون شيئاً عن الوعي الجمعي للناس المحزونة المجروحة. لذا فإن هؤلاء منتجو تطرف لن يحول دون انتاجه، كل ما يطفو على سطح الأخبار من أنباء عن التهدئة المديدة والاستقرار. إنهم يعمّقون الحقد الذي سيتوارثه الصغار عن الكبار. فقد زرعوه في كل بيت، وفي قلوب ذوي الشهداء ومن قتلوا ظلماً، وفي وعي الصغار الذين شاهدوا بأمهات عيونهم كيف تقطعت أشلاء رفاقهم من الأطفال. يتحدث هؤلاء عن الدواعش الذين لا يختلف اثنان على قبحهم، لكن ما يفعلونه هم أعتى وأشمل في القتل والتدمير مما تفعله داعش. وما هو الفارق بين من يذبح صحفياً أو ينفذ اعداماً في امرأة بلا سبب يبرر أن تُصفع، وطيار أو ضابط مدفع، يدمر بيتاً على رؤوس ساكنيه من الناس والأطفال، ويُحيلهم الى أشلاء؟!
اليوم، لم يعد يفيدنا التأسي. لقد بات المعنى الأهم للسياسة، هو كيف نخرج من هذه الكارثة الني نحتاج الى سنوات طويلة لإزالة آثارها والى الشفاء من جراحها. إن التحدي هنا، هو كيف نجمع بين التمسك بخطاب الحرية ومقاومة الاحتلال والإصرار على تحقيق الأهداف، والإمساك بميزان العقل الذي يعاين الخيارات والمواقف ويتخذ من بينها الأوجب الذي يراعي معطيات الواقع بمستواه العسكري ويراعي مصالح الناس وحياتها ودماءها. لقد لوحظ في سياق هذه الكارثة، أن المقاوم بالسلاح يفتي في السياسة، وبعض المعنيين بالسياسة يفتون في شؤون الحرب. وفي هذه اللُجة لم نعرف أين هو مركز القرار المُلزم. لقد ألمح الرئيس أبو مازن الى أن شيئاً جديداً يمكن التحدث عنه، سيغيّر هذه الحال. يمكن أن نستبطن أن البعض قد تعلّم وأدرك أهمية ان نكون موحدين، لا يزاود بعضنا على بعض، ولا يذهب كل بعض الى استراتيجيته الخاصة، التي لم تقم على حسبة ولا على علم ولا على اعتبار لواقع ميزان القوى، لكي لا يجر طرف فلسطيني سائر المجتمع والشعب الى المقلاة. إن طبيعة نضالنا اليوم، لها وُجهة موضوعية، تتمثل في العمل الشعبي والسياسي والدبلوماسي، مع خطاب وطني رصين، ينم عن صلابة التمسك بالحقوق. لا بد من رمي المهاترات وراء ظهورنا، ولا بد من الإقلاع عن الغرور والأوهام، لكي نتمكن من وقف العدوان وتطبيب الجراح ورفع الركام توطئة لإعادة الإعمار وملاحقة مجرمي الحرب واستئناف الطريق الى الحرية!