لعبة المرايا
بقلم عيسى قراقع
رئيس هيئة شؤون الأسرى
1-9-2014
اقرأ صفحة جريدة القدس قبل عشرين عاما، ويستهويني التاريخ وانا ابحث عن أقدامه وخطواته لعله يسير إلى الأمام، فلا أجده إلا واقفا متجمدا متكررا يصرخ بنفس العبارات والأخبار والأحداث وإن اختلف الزمان، التاريخ متكلس ويجتر الفجائع وصداها واشتقاقاتها، وتتباعد المواعيد والمكان هو المكان.
نحن الحركة الوطنية الفلسطينية لازلنا نردد ونطالب ما طالبنا به قبل عشرين عاما، كبرنا وهرمنا وكبر الوطن وهرم معنا، ولا زلنا في المربع الأول، نفتش عن مساحة لائقة للحرية والكرامة والخلاص من عبودية الاحتلال.
لقد فاوضنا وقاومنا ومتنا كثيرا، واعتقلنا وجرحنا وأبعدنا وهدمت منازلنا، وشنّت على رؤوسنا حروبا ومجازر دامية، تمسكنا بالأمل بين كل لحظة موت وموت، حملنا الحياة نيابة عن الشهداء، تظاهرنا واعتصمنا من أجل حرية الاسرى وحقوقهم العادلة، سافرنا إلى كل بقاع الأرض نحمل حقنا المستلب، لعل الضمير العالي يصحو وينفذ مبادئه وقراراته وثقافته وينتصر لحق تقرير مصيرنا، ولم نجد سوى أن هذا الاحتلال ازداد سمنة وبشاعة وعمقا.
كلما كبرنا في مرايا السياسة، وبدأ العالم يرانا أكثر وضوحا، وأصبحنا دولة عضو في الأمم المتحدة وفي العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وكشفنا مدى الخطر على السلام العالمي والإنساني من استمرار هذا الاحتلال العسكري والاستيطاني، كلما صغر حجمنا في مرآة الاحتلال المدعوم أمريكيا، لا يرانا سوى حكم ذاتي مشوه وبائس، ولا يتعامل معنا إلا بمستوى أقل من البشر، ليس لنا حصانة ولا حقوق، مسموح ذبحنا واعتقالنا وإذلالنا على مدار الأربع والعشرين ساعة.
أحلامنا الكبيرة بعد اتفاقيات أوسلو، عندما وضعنا أقدامنا على عتبات انبلاج دولة فلسطين، وصار المنفى خلفنا، وصار لنا شرطة وعلم ومؤسسات وحكومة، تكسرت رويدا رويدا، بعد أن وجدنا صورتنا في مرآة المحتلين وإجراءات الأمر الواقع صغيرة جدا، احلامنا تقوقعت في اجراءات حسن النوايا، ومبادرات دفع عجلة المفاوضات، ليس لنا الا سلطة أُثقلت بأعباء الامور الحياتية حتى غرقت فيها وعجزت عن اجابة اسئلة الحرية والاستقلال والعودة والدولة... الصورتان في المرآة لنا، ولكنهما مختلفتان وكأنهما ليستا لنا.
الاحتلال انسحب من صورته كاحتلال وضلل العالم وضللنا، قلع عين العالم الذي رآنا بعين واحدة فقط، مشاريع تنمية، مؤتمرات اقتصادية، وقضاء وسجون وطفرة في البناء والتوظيف، ولم يستطع أن يرى دبابات الاحتلال تقف فوق أحلامنا وفي بيوتنا وأراضينا، تحتل الصلاة في القدس، وتحول قطاع غزة إلى مقبرة جماعية لسكانها.
هي لعبة المرايا السياسية، نشاهد حالنا كشعب يخضع للاحتلال بموجب قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، دولة تحت الاحتلال تسعى للتحرر والاستقلال، ولكن العالم يشاهدنا بطريقة أخرى، فالرموز والشكليات والسلوكيات غيرت من شكلنا في المرايا، فالضفة محررة، فيها سلطة وحكومة وأجهزة ومؤسسات، وغزة محررة بعد انسحاب جيش الاحتلال من طرف واحد، وأي مقاومة من قبلنا تعتبر اعتداء على دولة أخرى، يحق لها إبادة الناس وقصفهم بأطنان القنابل، صورتنا الحالية ترسل انعكاسات وإشارات مزدوجة وقاتلة.
الأمين العام للأمم المتحدة، والذي يعتبر حارسا للقرارات الدولية ومبادئ الميثاق، اعتبر أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، مطالبا فقط بعدم استخدام قوة مفرطة في العدوان الأخير على قطاع غزة، أنه يرى غزة في مرآته بلدا محررا وليست جزءا من أراضي ال 67 المحتلة المحاصرة، والتي دعت قرارات الأمم المتحدة إلى انسحاب إسرائيل منها، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقه في الحياة والدولة والحرية.
في مرآتنا الفلسطينية الثورية نرى أسرانا مناضلي حرية وأسرى حرب، وفق اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، وما نصت عليه حول حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أن تقاوم هذا الاحتلال بكل الأشكال، وأن من يقع في قبضة المحتل ينطبق عليه صفة المحارب القانوني والشرعي، وفي مرآة المحتلين والكثير من الدول لا زال الاسرى وعائلاتهم (إرهابيين)، يلبسون البرتقالي، يخضعون لمحاكم عسكرية غير عادلة، يجوز تطبيق قوانين الاحتلال الخاصة عليهم وليس القانون الدولي، ويجوز اعتقال الأطفال والنواب، وممارسة التعذيب والتنكيل، و سلب الاسرى حقوقهم الإنسانية والمعيشية وحقهم في محاكمات عادلة.
في المرآة الاحتلال كانت صورة السلام الاستراتيجي الذي طرحه الرئيس ابو مازن والقيادة الفلسطينية، شكلا من أشكال الحرب والإرهاب الدبلوماسي كما وصفه الإسرائيليون، وفي مرآتنا كان السلام حقنا للدماء وإنهاء الصراع والعيش المشترك، وكلما لمعت صورة السلام الفلسطيني، كلما رفعت رايات الحرب من قبل إسرائيل وازدادت تطرفا.
في المرآة الفلسطينية تجد نفسك وزيرا أو مسؤولا بكل ما يعني ذلك من هيبة وسيادة وحصانة وطاقة على إصدار القرارات، ولكنك تجد نفسك في مرآة المحتلين وآخرين من أعوانهم الإقليميين والدوليين، رهينة تثير الشفقة، يدخل جيش الاحتلال إلى مكتبك الفاخر، يكلبشونك و يعتقلونك ويشبحونك ويعرونك ويمزقون أوراقك وصورك وهداياك الجميلة، حينها قد تكره صورتك، وتحطم تلك المرآة لأنها مزيفة.
وقعنا في لعبة المرايا، ضخموا صورتنا ليصغروا حقوقنا وهيئتنا في هذا التناقض المخيف، بين إخراج مبدع يرضى به المشاهدون، وبين واقع تحول إلى قفص لا يحتمل استيعاب صورتنا المكبرة.
الأضواء علينا، المكياج السياسي المبهر، حتى عندما نذبح نرقص فرحا، وعندما يفتحوا لنا معبرا لإدخال الخبز والمعكرونة نقيم الاحتفالات، وعندما نغضب ونكتشف اللعبة، يتغير الديكور وتبهت الصورة ، وتبتعد ملامحها الإنسانية.
علينا أن نخرج من المرآة، ولا نقبل أن نكون صورة لتجميل الاحتلال الذي وصل إلى قاعنا اضطهادا، ويسعى لشطب هويتنا وتطلعاتنا الوطنية والقومية و الثقافية، وان نرى أنفسنا كما هي، في الشارع وعلى الحاجز وقرب المستوطنة الغاصبة.
وعلينا أن نستيقظ من لعبة المرآيا، نتحرر من لمعان السجن وإفرازاته: أكلا وشربا ورفاهية مؤقتة، لنرى أنفسنا سجناء بطبيعتهم، مقيدين محشورين، مهانين على أيدي محتلين، تارة بلباس مدني وتارة بلباس عسكري.
عندما تدخل الضحية المشهد في مرآة الأمر الواقع وترى نفسها فوق الضحية، أو نصف ضحية، أو أنها شفيت من كونها ضحية، يكون حينها الجلاد قد انتصر بامتياز وعيا وفكرا، وصنع ذاكرة أخرى لهذه الضحية، نسيان الألم، إفراغ التاريخ، وقد تتحول الضحية في صورتها الثانية جلادا يحطم صورتها الأولى.
كتبت لها:
هذا انا في مرآة الحرية
جميلا مبتسما متحمسا حالما
مشبع العواطف
وهذا انا في مرآة سجن نفحة
مربوطا مريضا عاريا
وخائف
عندما تزوريني أرجوكِ
اقلبي المرآة