قطاع غزة: استقرار التصعيد.. وفوضى التهدئة!!
جريدة الايام
بقلم هاني حبيب 14-3-2012
تهدئة جديدة لوقف تصعيد جديد، تهدئة جديدة لا تعترف بها إسرائيل علناً، وتصعيد جديد تقوم به حكومة نتنياهو وعلناً وعلى رؤوس الأشهاد تعترف به وتفاخر بقدرتها على خرق تهدئة سابقة، هكذا جرت الأمور هذه المرة، تكراراً لتجارب سابقة، أخذت نفس المنحى، وعلى الغالب فإن الأمر مرشح للتكرار من جديد، إلاّ إذا كانت المرة القادمة تصعيداً إسرائيلياً بهدف القيام بحملة برية واسعة النطاق، أي حربا شاملة على قطاع غزة وإعادة احتلاله فعلياً، ولو إلى حين.
إسرائيل اعتبرت هذه التهدئة، مجرد اتفاق بين مصر وفصائل فلسطينية في قطاع غزة، وان موقفها لم يتغير بشأن عمليات الاغتيال، وانها لن تقوم بأي قصف إلاّ رداً على على قصف فلسطيني، وان الأمر سيظل محكوماً في هذا الاطار، وإسرائيل تقع في تناقض من حيث لا تدري، فقد قالت عبر وسائل إعلامها، ان هناك أكثر من عشرة صواريخ وقذائف هاون أطلقها الفلسطينيون منذ الإعلان عن بدء سريان التهدئة (!) وفي نفس الخبر تنقل عن رئيس الهيئة السياسية الأمنية في وزارة الحرب الإسرائيلية عاموس جلعاد تأكيده أن إسرائيل لم تلتزم بوقف إطلاق النار أو وقف استهداف الفصائل الفلسطينية وقادتها (PNN ـ 13/3/2012).
وإسرائيل، هي ذاتها، التي كانت قد اعترفت بخرق الاتفاق الشفهي بوساطة مصرية حول التهدئة السابقة، عندما صرح وزير الحرب الإسرائيلي ايهود باراك بأن إسرائيل كانت ملزمة باغتيال قائد لجان المقاومة الشعبية، لأنه كان يخطط وعلى وشك تنفيذ عملية على الحدود المصرية ـ الإسرائيلية. أي أن إسرائيل ستكرر مثل هذا الاغتيال، باعتبار الأمر ملزماً لحكومتها، عندما تتجمع لدى أجهزة استخباراتها المعلومات الكافية لاغتيال قادة فلسطينيين بزعم التجهيز لعملية عسكرية ضد الاحتلال، وبهذا الصدد لا يجب أن نتسامح مع مسألة حصول إسرائيل على معلومات دقيقة حول هذه القيادات وتحركاتها، ما سهل في السابق، وسهل هذه المرة اغتيال قادة فلسطينيين، وينبغي على الجهات المسؤولة، السياسية والأمنية لدى كافة فصائل المقاومة، تقييم أوضاعها التنظيمية والأمنية، بما يسد الثغرات الأمنية التي سمحت لإسرائيل الوصول إلى القادة بهذه السهولة، ولا يجب أن يحجب الغبار الناجم عن إطلاق الصواريخ حقيقة وجود هذه الاختراقات الأمنية الإسرائيلية بين صفوفنا.
وإلى جانب اغتيال أحد كبار القادة الفلسطينيين، فإن التصعيد الإسرائيلي الأخير كان يهدف إلى تحقيق عدة أهداف في تصعيد واحد، أو ضربة واحدة، تهيئة لظروف أفضل يمكن معها القيام بحملة عسكرية برية واسعة وشاملة على قطاع غزة، إذا اقتضت الضرورة ذلك، إذ يمكن ملاحظة أن وسائل الإعلام الإسرائيلية، ونقلاً عن المؤسسة الأمنية، "كشفت" خلال الفترة الأخيرة، أن الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، قد تلقت المزيد من الأسلحة الحديثة، الصاروخية والمضادة للدروع والطائرات، من إيران وليبيا بعد انتشار السلاح في هذه الأخيرة والفوضى التي عمت البلاد إثر الثورة، ولمزيد من التأكد من هذه المعلومات، والكشف عن بعض هذه الأسلحة على الأقل، ومستوياتها التقنية ومناطق تخزينها وإطلاقها، كان لا بد من خرق التهدئة، واستجداء رد فلسطيني، وهذا ما حدث بالفعل على نطاق محدود، لأن الفصائل لم ترسل صواريخها إلاّ بالحدود التي تطلبتها تطورات التصدي ومن دون الإفصاح الكامل عما بحوزتها.
وكانت إسرائيل بحاجة إلى التعرف على ردود الفعل المحتملة، عربياً وإقليمياً ودولياً على أية خطوة عسكرية في مواجهة مع قطاع غزة في المستقبل، خاصة بعد جملة المتغيرات التي حدثت بتداعيات "الربيع العربي"، وكانت مهتمة بالتعرف على رد الفعل المصري تحديداً، ووفقاً لتصريحات بعض القادة الإسرائيليين، فإن رد الفعل المصري، ظل تقليدياً، أي الاندفاع نحو وساطة لوقف التدهور، من دون اتخاذ أي موقف آخر، وزير الشؤون الاستراتيجية موشيه يعلون صرح بأن استشهاد 18 فلسطينياً ـ حتى وقت التصريح ـ بسلسلة غارات إسرائيلية على قطاع غزة أثبت فشل نظرية أن الوضع الجديد في مصر المنبثق عن الثورة يكبل يد إسرائيل من العمل العسكري في القطاع.
وعلى مستوى آخر، عربي وإقليمي، فإن "الفزعة" لم تأت من الحلفاء الممانعين، وكما جرت الأمور قبل أعوام قليلة عند الحرب الواسعة على قطاع غزة، ظلت الصواريخ التي يملكها "حزب الله"، معطلة، ما حال دون التقدم بالدعم المطلوب من خلال تحريك الجبهة اللبنانية، وكما تكرر الموقف الإيراني، الذي صعد إعلامياً، وظل جامداً عملياً.
أما على المستوى الدولي، فقد نجح الإعلام الإسرائيلي في توظيف نسبة الضحايا من المدنيين الفلسطينيين جراء الهجمات الإسرائيلية، وهي محدودة كي تشجع الأمين العام للأمم المتحدة، على دعوة الجانب الفلسطيني لوقف اطلاق الصواريخ التي تهدد المدنيين الإسرائيليين، بينما طالب إسرائيل بضبط النفس، وكان موقف وزارة الخارجية الأميركية، تكراراً لموقف بان كي مون وإن بصياغات مختلفة، أي أن خرق الهدنة السابقة من قبل إسرائيل، رغم اعترافها بهذا الخرق لم يدفع إلى التنديد به، وظل الخطاب على المستوى الدولي، مبرِراً ضمناً عدوانَها، ومغمضاً عينه عن ضحايا الاحتلال والعدوان على الجانب الفلسطيني، ما سيشجع إسرائيل في المستقبل على اتباع ذات النهج إذا ما قامت بعملية واسعة النطاق، وجندت لها كل أسباب الدعاية والتبريرات التي من شأنها تحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية ما يحدث!
أكثر من ذلك، فقد تقدمت إسرائيل عبر نائب سفيرها لدى الأمم المتحدة حاييم فاكسمان بشكوى رسمية يطالب فيها إدانة استمرار سقوط الصواريخ الفلسطينية على البلدات الإسرائيلية في الجنوب، وهو الأمر الذي استجاب له الأمين العام للأمم المتحدة كما ذكرنا سابقاً، أي ان إسرائيل التي تحتل، هي ضحية من احتلتهم، ورغم هذه الصورة المعكوسة، إلاّ أن الرأي العام الدولي، ما زال مغمضاً عقله وعينه عن الاحتلال الأكثر وحشية في تاريخ البشرية الحديث.
وبطبيعة الحال، هناك أسباب إضافية لخرق إسرائيل لتلك التهدئة، كالتعرف على إمكانيات "القبة الحديدية" ما يدفع وزارة الحرب إلى طلب ميزانيات إضافية، وربما أيضاً اختبار تقنيات أكثر حداثة تتعلق بوسائل التجسس والمراقبة عبر الطائرات من دون طيار والأقمار الصناعية، وكذلك المراهنة على انقسام داخلي فلسطيني بشأن الموقف من الرد على التصعيد والتهدئة، وعلى الأرجح أن إسرائيل حصلت على إجابات على معظم الأسئلة التي كانت تنتظرها من وراء هذا التصعيد.