المشهد الغزي... اسرائيل ومصر
جريدة القدس
بقلم نبيل عمرو 14-3-2012
من خلال الحرب الطويلة التي لم تتوقف بين اسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة، تبين لنا ان اسهل عمل يمكن القيام به هو اشعال الحرب، والاسهل منه كذلك هو الوصول الى تفاهم حول التهدئة.
هذه الخلاصة الغريبة التي شهدناها عبر عشرات الحروب الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، والتي يقابلها عشرات اتفاقات وتفاهمات التهدئة واحيانا كانت تسمى بوقف اطلاق النار... هذه الخلاصة تشير الى خطورة الوضع في غزة من خلال استحالة بلوغ مستقر نهائي لها .
مفهومٌ ان الدافع النمطي من وجهة نظر اسرائيل للجولة الاخيرة من العنف هو تنفيذ سياسة الردع من خلال الانتقام ، والانتقام وسيلته الامثل هو الاغتيال ، وتعرف اسرائيل انها حين تغتال رمزا او قائدا بارزا او حتى كادرا فعالا فان رد الفعل العنيف هو ما ينبغي توقعه.
وحين صدر قرار تصفية زهير القيسي كان نتنياهو والمستوى السياسي في اسرائيل، يعرفون جيدا ان ردا من النوع الذي حدث لابد وان يواجهونه منذ اللحظات الاولى للاغتيال، حتى ان بعض الكتاب الاسرائيليين اتهموا نتنياهو مباشرة بانه استدرج عمدا صواريخ غزة لامر في نفسه يحتاج الى تصعيد عسكري، وهذا الاتهام ليس بعيدا عن قرائنه العملية ، فحين تعرف رد الفعل وتقدم على الفعل، فكأنك قررت ان يبيت خمس سكان اسرائيل في الملاجىء وان تتحول انابيب الصرف الصحي الى مدارس وكليات مؤقتة، يتلقى فيها طلبة جنوب اسرائيل علومهم عبر الانترنت الى حين ايجاد الحل النهائي لمعضلة غزة، واضعين في الاعتبار ان عمر هذه المعضلة جاوز عقودا من الزمن .
غير تجسيد فكرة الردع بالانتقام ، وغير نمطية دوافع الحرب والتصعيد لدى اسرائيل، ماذا يا ترى نقرأ على وهج النار في غزة؟
هنا يلتحم المشهد الغزي بالمشهد المصري، ونقرأ من خلال اقلام كبار الكتاب في اسرائيل، والمفكرين والساسة المخضرمين، ما يشير الى ان ضرب غزة هو نوع من مخاطبة الاوضاع الجديدة في مصر، وهنا يجدر قراءة الآراء الاسرائيلية حول هذا الامر بالذات قراءة متأنية .
منها ما يقول، ان الوضع الجديد في مصر يحمل تأييدا ودعما لحكومة حماس في غزة، وان هذا التأييد والدعم سيتجسد بصورة معادية وسافرة لاسرائيل منذ اليوم الاول الذي ينتخب فيه رئيس جديد لمصر، وبالتالي فمن المنطقي ان تبدأ اسرائيل عملية عسكرية متدرجة، ربما تصل الى حرب شاملة بهدف اجتثاث مصدر الخطر ووضع اي رئيس مصري جديد امام امر واقع يعجز عن معالجته او اتخاذ اجراءات حاسمة بشأنه، ومن هنا نفهم ما يقوله ليبرمان مثلا من ان اي حرب على غزة لا تؤدي الى اجتثاث حكم حماس، لا لزوم لها بل ولا معنى لخوضها، وهذا ليس مجرد رأي في اسرائيل بل انه سياسة وان اختلف صناع القرارات السياسية والعسكرية على كيفية اشهارها او انكارها الا ان هذه السياسة ايضا تجد في اسرائيل من يحذر منها ويخوف المستوى السياسي من مغبة المضي قدما فيها، ولعل الهاجس المصري هو من يحرك هؤلاء العقلاء ويوفر لهم مصداقية الرأي والاستخلاص ، فمن اسميهم العقلاء في اسرائيل يرون ان اختبار مصر من خلال عمل عسكري كبير على خاصرتها الحيوية في الجنوب، قد لا يؤدي الى حرب مصرية اسرائيلية شاملة، ولكنه سيؤدي حتما الى اضطراب خطير في العلاقة مع الجارة الكبرى بما يسحب اثاره المدمرة على الاتفاقيات المهترئة التي حكمت علاقة مصر باسرائيل قرابة اربع عقود ، وما حدث هذه الايام داخل مجلس الشعب المصري، من اجماع على طرد سفير اسرائيل من مصر، واستدعاء سفير مصر من اسرائيل، يجعل من مخاوف العقلاء حقيقة سياسية ماثلة وليست وليدة استنتاج واستقراء .
المشهد الغزي لم يعد يُرى من خلال مساحة المكان الذي يشتعل بالنار، وهو جنوب اسرائيل وقطاع غزة، بل ولم يعد يرى كما لو انه حرب جانبية تجري على جزء معزول من الخريطة الشرق اوسطية ، هكذا كان الامر ربما خلال الحقبة الماضية، حين كانت المنطقة كلها تنام تحت رداء سميك من الجمود والاذعان لمعادلة التفوق الاسرائيلي المقرر ، اما الان فلا مجال للاستمرار بالتفكير وفق القواعد القديمة للمعادلة بل ولا جدوى من اتخاذ قرارات سياسية وعسكرية كما لو ان .... لا شيء تغير، وهنا يطرح من اسميهم عقلاء اسرائيل سؤالا منطقيا الى حد كبير على ثنائي نتنياهو ليبرمان اللذين يسبحان مع التيار الجارف في اسرائيل نحو اليمين، دون التبصر بما يجري في المنطقة من تحولات ليست مضمونة الخلاصات وليست سهلة التطويع.
نتنياهو الذي فجر حرب غزة الصغيرة الاخيرة بعد عودته من واشنطن مباشرة ، يُتهم من قبل عقلاء اسرائيل بانه حقق نجاحا بائسا وهو التغطية على المسار الفلسطيني بتضخيم المسار الايراني ، وبعضهم وصف ذلك بالهروب من معضلة موجعة الى نجاح استعراضي فيه من الافتعال اكثر مما فيه من السياسة والاستراتيجية .
فكم بطيخة يحمل نتنياهو، وكم هي بنود الفاتورة التي يحمل الاسرائيليين ثمنها ، هل اولها الغاء فكرة السلام مع الفلسطينيين وهل ثانيها اعادة حرب باردة موجعة مع المصريين، وهل ثالثها استدراج الصواريخ الى المدن الاسرائيلية اليوم من غزة وغدا ربما من حزب الله وبعد غد من ايران ، ان نتنياهو يحمل ذلك كله في يد واحدة والملفت انه يحمل الفاتورة الباهظة ويلقيها باستخفاف على مائدة اوباما ليقول له سدد فانت مضطر الى النظر في هذه الفاتورة ودفع ما تستطيع من تكاليفها في موسم الانتخابات الذي يشكل بالنسبة لكل مرشح اليد الموجوعة التي لا تحتمل مزيدا من الضغط والايلام.
اذا فان المشهد الغزي لم يعد كما كان فيما مضى مجرد زوبعة في فنجان اسرائيلي ، انه بالضبط صاعق تفجير يصيب المنطقة باسرها، واخطر ما في الامر انه يصيب العلاقة المصرية الاسرائيلية التي استقرت على صيغتها المألوفة اربع عقود لتواجه مصيرا غامضا هو الخطر بعينه.