السلام عليك يا محمود درويش !
جريدة الحياة الجديدة
بقلم يحي رباح 16-3-2012
في الذكرى السابعة لرحيله , في ذكرى مولده , في ذكرى حضوره المتجدد فإن محمود درويش يعيش بيننا بقوة , بصفته مبدعاً كبيراً , بصفته شاعراً من نمط متفرد , استطاع على نحو ما و بطريقة لا يمكن أن يشرحها احد , ان يحول فلسطين في الذاكرة الجمعية الفلسطينية و العربية و في الذاكرة الإنسانية , من استذكار سياسي إلى اعتراف ملحمي , و من سجل واقعي إلى تاريخ تراجيدي , لا يخبو في بعض المناسبات و ينهض في مناسبات أخرى , بل هو إرث إنساني يتم استكشاف نفائسه باستمرار دون أن ينضب , و يتم الانحياز له بغض النظر عن نوع الأدوات السياسية المستخدمة في كل مرحلة , بل فلسطين بعدالتها و وجعها و أسئلتها الكبرى , و خطايا الصانعين لمأساتها , تحولت إلى إرث إنساني شامل , و إن كل من ينفض يديه من هذا الإرث , من عبقرية هذا الجرح , و من إلحاح هذا السؤال الكبير يشعر بأنه عاقب نفسه أشد العقاب بأنه أصبح على الهامش , و ينظر إليه بارتياب حتى على مستوى اكتساب صفاته كإنسان .
سؤالي في هذه الذكرى هو : كيف استطاع محمود درويش , و هو في خضم الحدث اليومي , و في قلب الصخب , أن يعيش التفاصيل كلها بفيضانها الطاغي وان يتحرر منها في نفس الوقت و يحولها إلى نسيج غير مرئي في رؤيته الملحمية الكبرى ؟؟؟
لا أدعي أنني ناقد أدبي , بل على العكس من ذلك , فأنا من الذين يؤمنون ببؤس النقد الأدبي , و أن الإبداع أسبق من القواعد التي ابتدعها له النقاد , و يعود ذلك إلى أن التجربة الإنسانية أسبق و أعمق من كل مؤرخيها !!!
و لكنني تعرفت على محمود درويش في اليوم الأول الذي خرج فيه من حيفا و وصل إلى القاهرة , و كان من أصعب القرارات التي اتخذها في حياته و لم يبرأ قط من الأسئلة التي ظلت تلاحقه حول هذا القرار حتى لحظاته الأخيرة ؟؟؟ و كانت اخر مرة رأيته فيها في رام الله في مركز خليل السكاكيني الثقافي في بداية العام 2004 , و كنت قد تعرفت عليه قبل أن أراه من خلال مبدع فلسطيني من نفس الطبقة الإبداعية , مسكون هو الآخر بالروح الملحمية لفلسطين , و هو غسان كنفاني , من خلال الجهد الذي كان يبذله في الستينيات و هو يبشر بالمبدعين الفلسطينيين الذين اتحدوا هناك مع الأرض و الذاكرة داخل الخط الأخضر !!! كما أن محمود درويش كان رئيسنا عندما كنت عضوا في الامانة العامة لاتحاد الكتاب و الصحفيين الفلسطينيين , و قد احتفيت به كثيرا عندما زار صنعاء مرتين و كنت سفيرا لفلسطين هناك , فقد جاء مرة في العام 93 كنوع من التهرب حتى لا يشارك في جلسة المجلس المركزي التي عقدت في تونس لإقرار اتفاق اوسلو , ليس لمعارضته للاتفاق الذي يتيح لنا موطئ قدم في وطن صغير متاح , و لكنه كان يخشى أن يتحول الوطن المتاح إلى ما يشبه الوطن الذي اضطر إلى مغادرته خارجا من حيفا إلى المنفى , و في تلك الزيارة كان يصاحبه الكاتب و المفكر اللبناني فواز طرابلسي أما المرة الثانية فكانت في العام 2003 حيث انعقد مؤتمر الشعراء الألمان الفلسطينيين اليمنيين حيث شارك الشاعر الألماني الحائز على جائزة نوبل غونتر جلاس كما شارك الشاعر السوري العربي الكبير أدونيس , و كان محمود درويش نجم المؤتمر الساطع بإقرار و فرح الجميع .
عبر هذه السنوات التي عايشت فيها محمود درويش في القاهرة و في بيروت التي كانت وقت ذاك عاصمة الثورة العالمية , و في تونس بعد ذلك حين أقلتنا إليها سفائن البحر الكبيرة الحجم , و في عمان و صنعاء و رام الله أخيرا , بعد كل هذه السنوات , فإنني لم ألمح محمود درويش و لو مرة واحدة , و لو لثانية واحدة في حالة من الكآبة , كنت أراه في بعض الأحيان مغموسا في حزنه الذي لا يضاهى , و لكن ليس في الكآبة و الانطفاء , كان دائما وسيما و أنيقا و في حالة انتباه قسوة , كان يذهب ليتلقى وحي القصيدة و هو في قمة أناقته و في قمة الانتباه و اليقظة , و كان محمود درويش يضيق ذرعا بكل المظاهر الانفعالية المسرحية , و خاصة حين تأخذ شكل الكآبة و الانطفاء , و كان شديد الانتباه إلى من حوله , و كان له صداقات حية و لامعة مع فئات متعددة من الناس , كان له صداقات مع فدائيين , عناصر في بعض القواعد المقاتلة يحبهم جدا لطزاجتهم , و تلقائيتهم , يحب جنونهم كيف يضحكون و يعشقون و يحلمون و هم يعرفون أن أعمارهم قصيرة مثل زهور اللوز , و هم يشتبكون مع الخطر الشامل إلى حد الاندماج , و كان محمود درويش ينتعش مثل شتلة نعناع مروية بالماء العذب , و خاصة حين يلقي أحد في وجهه بحقيقة صادمة ببساطة و تلقائية , و كان يشعر بالقلق و الوجع من مظاهر الإعجاب المصطنع , و من بعض الأشخاص الذين كان يصفهم بكائنات النميمة , و كان يشعر بالضجر من النساء البشعات اللواتي لا يملكن أية موهبة سوى أنهن فاضلات !!! و كان يكره تلك المراسم التي يؤديها بعض الناس بطريقة خشبية , هرمة , و باردة , و في حالة انطفاء .
و حسب تجاربي البسيطة معه , فإن أكثر ما كان يشعره بالسخط عندما كان يرى مراكز و مؤسسات ثقافية يديرها أشخاص مليئون بالكآبة , ملامحهم مهدودة , ومثقلون بالهموم التي لا معنى لها , مثل أصحاب الدكاكين الصغيرة في القرى النائية , يهمس بدهشة حين يرى أحد هؤلاء الكئيبين و عيناه تلمعان من وراء نظاراته الكبيرة : ماذا يفعل هذا الرجل هنا ؟؟؟ و كنت انتبه فعلا فأرى ذلك القائم على أمور المؤسسة الثقافية شخصا متآكلا , مثل باب خشبي قديم لا يفتح و يغلق بسهولة , مقص من الناس , ألقابه التي يطلقها على نفسه تحيط به مثل جدران القبر الضيق , يا إلهي , الإبداع حلم و اشتباك و فرح , فكيف لهؤلاء الكئيبين المعترفين في أول سطر بالهزيمة و العزلة أن يكونوا رعاة الإبداع؟؟؟
انتصر محمود درويش طيلة حياته على هذه النمطيات الميتة , لم يقبل طيلة حياته أن يكون موظفا برتبة قائد , و لا ان يكون مداحا بصفة شاعر , و لا أن يكون كاتب تقارير و نميمة بمرتبة قطب ثقافي كبير !!!
انتصر محمود درويش طيلة حياته رغم ما فيها من وجع – في أن يظل حرا كما يريد , يعشق فلسطين بطريقته , يهديها اللآلئ التي تليق بها التي تنتمي إلى عالم الملحمة المستمرة , و لا تنتمي للحظة التي تخنق الأنفاس .
الاحتفال الذي قيم في ذكراه في رام الله أعظم ما فيه , هو روح الاستمرار , و التجدد , من خلال المنشآت التي أقيمت , و الجائزة التي تتوهج لأنها تحمل اسمه , و حضور تلك الجميلة و الفنانة المسرحية المبدعة , التونسية جليلة بكار !!! و كنت أتمنى أن لا تختنق ذاكرة تلك الكلمات التي تشبه نشارة الخشب التي ألقاها بعض رموز الكآبة !!! لماذا لم يكن هناك أطفال كثيرون , لماذا لم يكن هناك عدد كبير من الشباب الوسيم المجنون , و الفتيات الجميلات ينشدن نشيد الفرح؟؟؟