الحداثة والتبعية في فلسطين
جريدة القدس
معجب القدس 22-3-2012
إن سعي الفلسطينيين إلى الحرية والتحرر بالمفهوم الفردي والجماعي، الإقتصادي والسياسي يواجه معضلة بنيوية أساسية تتمثل في حالة من التبعية الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي، ولا يمكن بحال من الأحوال إنجاز التطور العلمي والاقتصادي المطلوب دونما كسر طوق الاحتلال.
وفي خضم هذا المعترك تبرز مركزية السؤال حول إدخال الحداثة العلمية والمادية إلى فلسطين وفي ذات الوقت التعامل مع ضرورات المعركة من أجل الاستقلال.
الحداثة والتبعية ليسا مفهومين متعارضين بالضرورة، ولكن في الحالة الفلسطينية فإن شرط التبعية البنيوية المفروض على المجتمع والاقتصاد الفلسطيني يشكل حاجزاً (كما حواجز الاحتلال الأخرى) يمنع الحداثة من المرور أو الاستقرار في فلسطين.
والحداثة هنا هي حركة كلية شمولية فكرية ومادية أما التبعية فهي نمط مشوه للنمو منتشر في الدول ما بعد الاستعمارية، وهما يسيران في مسارين متعاكسين تسيطر فيه التبعية بآلياتها وقوانينها الامبريالية على الحداثة المحلية أو الوطنية، فتؤدي إلى تشويهها وحرفها عن مسارها.
إن واقع التحديث الاقتصادي والسياسي يفرض نفسه يوماً بعد يوم كضرورة حضارية وقوميةً، تسمح للفلسطينيين بأن يجدوا مكاناً أفضل وفاعلية اكبر في التاريخ الحديث، أما البديل عن هذا التحديث فهو الاستمرار في التبعية والتخلف.
الأطروحة المركزية والأساسية لمدرسة التبعية تقول أن سر تخلف البلدان النامية يكمن في العلاقات القائمة بين هذه البلدان والبلدان الغربية المتقدمة. يقول "سمير أمين" أحد أهم رموز هذه المدرسة: "تاريخ التطور الرأسمالي في أوروبا هو كذلك تاريخ التدمير للشعوب المستعمرة".
تتوقف درجة التبعية الاقتصادية على عدة عوامل أهمها:
الأهمية النسبية للدور الاقتصادي الذي يمارسه الاقتصاد المسيطر على اقتصاد البلد التابع وهي أهمية تظهر من خلال الميزان التجاري والناتج القومي والتشغيل والميزانية العامة. وكذلك مركز الاقتصاد المسيطر في العلاقات القائمة بينه وبين الاقتصاد التابع، وهذا يعتمد على مدى قوة مساومة الاقتصاد المسيطر في علاقاته مع الاقتصاد التابع، وهي كبيرة للغاية في حالة سيطرة الاقتصاد الإسرائيلي على نظيره الفلسطيني.
ان تجربة التحرر الاقتصادي والسياسي التي خاضتها أغلب البلدان المستعمرة قد أثبتت صعوبة التخلص من الهيمنة الاقتصادية والسياسية بحكم تفوقه التقني والإنتاجي الواضح، حيث أن هذه التبعية متكاملة وشاملة ومتداخلة في كل الميادين:
• فعلى الصعيد الاقتصادي صناعة مفلسة ومشاريع غير إنتاجية ونمط استهلاكي للمجتمع.
• كما أن الوضع ليس أفضل على الصعيد الاجتماعي، حيث الفقر في الخدمات الاجتماعية والبطالة المتزايدة وأزمة السكن والزواج المبكر.
• أما على صعيد التخطيط الحضري فهناك اكتظاظ وانفجار سكاني وتلوث واختناق والأمر سيان بالنسبة للوضع الصحي، أضف إلى ذلك سوء التغذية والتلوث.
• أما على الصعيد التعليمي فهناك قصور عام في اداء الدور الابداعي سواء في المدارس أو في المراحل الجامعية المختلفة بما يشمل المجالات العلمية وليس فقط الأدبية والانسانية. وعلى الصعيد الثقافي فهناك ركود متعمد ورقابة وقيود تجعل من القراءة عادة متقطعة.
وهنا لابد من التركيز على ان التعليم والثقافة يمكن ان يشكلا ساحة للمقاومة والنضال، وكما يقول المفكر الايطالي انطونيو غرامشي: ان كسر الهيمنة الفكرية والثقافية هي الطريق لكسر الهيمنة المادية، وبالتالي التخلص من الاحتلال. وفي هذا المجال سيقدم البرنامج التعليمي مجالاً واسعاً لممارسة النضال الفكري والثقافي، بما يشمل التأكيد على الهوية الوطنية وبرنامج التحرر.
نظريات العصرنة والتحديث تحمل خلالها نظريات تنموية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إن التحديث صيرورة وليس حالة، قوامها التفاعل المستمر مع المجتمع والدولة والاقتصاد.
التبعية الاقتصادية كنمط علاقات غير متكافئ وذات بعد تاريخي بين البلاد المتخلفة (التابعة) والمراكز المسيطرة في العالم الاستعماري الرأسمالي المتقدم تعني في مفهومها ألأساسي: علاقة الاعتماد الزائد والمتزايد عبر الزمن من طرف البلاد المتخلفة إزاء الدول الرأسمالية الصناعية في مجال المتغيرات الرئيسة للعرض والطلب عموماً أي التمويل والتكنولوجيا والأسواق.
يعتبر الكثير من الاقتصاديين أن التخلف الاقتصادي وتعثر عمليات وبرامج التنمية الاقتصادية يرجع إلى نوعية علاقات التبعية.
إن كسر الحلقة في العلاقات بين الاقتصاد النامي والاقتصاد المتقدم شرطٌ أولي للتنمية الاقتصادية. إن التخلف والتبعية والسيطرة الأجنبية قد أدت في كثير من الحالات إلى التخلف الاقتصادي وتراجع وتجميد قوى الإنتاج وإلى عرقلة برامج وعمليات التنمية الاقتصادية.
في ظل علاقات التبعية المسيطرة تكون إمكانية القيام بعمليات استغلال الطرف التابع ومن ثم نقل وتحويل القيم والموارد الاقتصادية من الأخير إليه أمراً عادياً وطبيعياً.
إن واقع الاحتلال في فلسطين يؤدي إلى عدم إمكانية الحديث عن حداثة أصيلة نابعة من القيم والتراث والعمق الفلسطيني، رغم أن هناك نوعاً من الحداثة الشكلية التي لا تمس الجوهر وهو الأمر الذي يحرص عليه الاحتلال كحرصه على منع استقلال فلسطين السياسي والاقتصادي والحضاري.
إن الاستقلال السياسي وإنهاء الاحتلال هو شرط ضروري لإحداث عملية تنموية وطنية في الاقتصاد والسياسة الفلسطينية. وبالتالي يجب التأكيد على أهمية الوحدة الوطنية والمقاومة الشعبية للاحتلال والمستوطنين. ولا يمكن القفز عن هذا الشرط بالاعتماد فقط على مؤشرات اقتصادية ناتجة بالأصل عن وجود الاحتلال أكثر مما هي بسبب قصور ذاتي وبإمكان الشعب الفلسطيني المساهمة الفاعلة بإيجابية في ركب الحضارة العالمية كما توضح وثيقة الاستقلال.
عبر مشاركة فلسطين الحضارية مع باقي دول العالم في كافة المجالات الثقافية والأدبية والفكرية تستطيع إثراء الفكر والثقافة العالمية، ولكن بشرط أن يقدم العالم للفلسطينيين شروط المساواة الكاملة في الحقوق المدنية والسياسية لتمكينهم من القيام بواجبهم الحضاري.