مسيحيو لبنان في مواجهة إسرائيل
محمد السمّاك
جريدة المستقبل 29-10-2012
" اذا تحققت آمال اليهود في اقامة وطن يهودي في فلسطين وتمّ لهم النجاح في ذلك، فقولوا السلام على حياة سائر العناصر في هذه البقع المقدسة، لأن اليهود شعب لا يمتزج بغيره من الشعوب".
هذه العبارة النبوءة التي تحمل تاريخ السادس من فبراير شباط 1920 وردت على لسان الأب بولس عبود رئيس دير الرهبانية المارونية اللبنانية في فلسطين.
وهذا العام صدر كتاب عن جامعة الروح القدس في لبنان للمفكر اللبناني روبير عبده غانم. عنوان الكتاب "عناصر تكوين دولة يهودية في فلسطين". وفيه يروي المؤلف وقائع لقاءات الجمعية الاسلامية المسيحية في يافا حيث ألقى الأب عبود كلمته التحذيرية قبل أكثر من تسعين عاماً.
كثيرة هي الكتب العربية التي تتناول الحركة الصهيونية واسرائيل. ولكن الكتب التي تناولت مشروع الحركة قبل قيام اسرائيل قليلة جداً. منها أربعة كتب لمؤلفين لبنانيين. من هذه الكتب كتاب للشيخ يوسف الخارن (توفي عام 1944) عنوانه "الدولة اليهودية في فلسطين". ومنها كتاب لأمين الريحاني (توفي عام 1947) عنوانه "مصير فلسطين". ومنها كتاب نجيب موصللي وعنوانه "الصهيونية وفلسطين".
ولعل من أهم الدراسات عن القضية الفلسطينية التي سبقت قيام اسرائيل تلك التي أعدها المفكر اللبناني ميشال شيحا. والذي تناول فيها الآثار السلبية لقيام اسرائيل على المنطقة العربية عموماً وعلى لبنان خصوصاً.
ومن اللافت ان جميع هؤلاء الكتّاب هم من المسيحيين اللبنانيين.
حاولت الحركة الصهيونية في مؤتمر الصلح في باريس في عام 1919 تدويل وعد بلفور (نسبة الى وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور) الذي صدر في عام 1917 وذلك من خلال إلزام المجتمع الدولي بالموافقة على اقامة وطن لليهود في فلسطين. وحاولت في الوقت ذاته توسيع حدود الوطن الموعود ليشمل جنوب لبنان بما في ذلك مجرى نهر الليطاني، وذلك بحجة ان فلسطين ارض جافة، وان الوطن اليهودي سوف يكون بحاجة الى مصادر المياه في لبنان ليتمكن من استقبال المهاجرين اليهود. متذرعاً بأن مياه الأنهار في لبنان تذهب هدراً الى البحر ولأن كمياتها اذا ما استثمرت بشكل جيد تزيد على حاجة لبنان. ولكن الوفد اللبناني الذي كان يتزعمه البطريرك الماروني الحويك وقف في وجه تلك المحاولات، وتمكن من خلال علاقات الكنيسة المارونية مع فرنسا ومن خلال علاقات فرنسا مع الدول الأخرى أن يقطع الطريق أمام الحركة الصهيونية التي اضطرت للانكفاء وقبول التخطيط الذي جرى وضعه بين المبعوثين الانكليزي سايكس، والفرنسي بيكو، والمعروف بخط سايكس-بيكو.
بعد ذلك حاولت الحركة الصهيونية الالتفاف على مقررات مؤتمر فرساي بتغيير الهوية الديموغرافية لجنوب لبنان. وكان المخطط يقضي بتهجير المسيحيين من العمق اللبناني الى جنوبه، تمهيداً لتقسيم لبنان الى جنوب مسيحي يتحالف مع اسرائيل، والى شمال مسلم بعيد ومنعزل عنها. غير ان القيادات الفكرية والدينية والسياسية المسيحية في لبنان تصدت بشدة لهذا المشروع الصهيوني وأجهضته. وفي أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن العشرين، وفي ظل الحرب الأهلية (1975-1990)، انشق "جيش لبنان الجنوبي" عن الجيش الوطني وعن السلطة الشرعية، أولاُ بقيادة الكولونيل سعد حداد، ثم بقيادة العقيد انطوان لحد. في ذلك الوقت بدا لاسرائيل انها تستطيع ان تعيد الحياة الى مشروعها. ولكن المقاومة اللبنانية للاحتلال الذي استمر من عام 1978 حتى عام 2000 بددت مرة جديدة هذه الآمال. ذلك انه قبل قيام حزب الله في منتصف الثمانينات، كانت المقاومة الوطنية تضم مسيحيين ومسلمين من مختلف المذاهب والأحزاب السياسية. وكانت الكنيسة المارونية تحديداً ترفع لواء الدفاع عن هذه المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الاسرائيلي. ولقد تلقى المشروع الصهيوني ضربة قاصمة في مايو ايار من عام 2000 عندما اضطرت القوات الاسرائيلية والقوى اللبنانية المحلية المتحالفة معها الى الانسحاب مذعورة ومن غير انتظام من جنوب لبنان الى اسرائيل تحت ضربات المقاومة اللبنانية التي كان يقودها حزب الله.
وكانت اسرائيل قبل أن تتلقى هذه الضربة، تلقت ضربة لا تقل إيلاماً عندما فشلت في عام 1982 في تقسيم لبنان الى دويلات طائفية ومذهبية. فبعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان واحتلال عاصمته بيروت، تمكنت اسرائيل من التأثير على القرار السياسي اللبناني حتى انها (تحت ضغط اليأس الذي أصاب قيادات سياسية مسيحية خلال الحرب الأهلية) أصبحت المصدّر الأساس للأسلحة للميليشيات المسيحية التي كانت تتقاتل مع الميليشيات الفلسطينية ومع المؤيدين لها من الحركات والأحزاب اللبنانية. ثم لبنان وحدته الوطنية على قاعدة التمسك بهويته العربية وبالعيش الوطني المشترك وبعدائه لاسرائيل، وهو ما نصت عليه وثيقة الوفاق الوطني في الطائف 1989.
أمران اساسيان حذر منهما مبكراً جداً المفكرون المسيحيون اللبنانيون:
الأمر الأول هو أن قبول الفلسطينيين بقرار تقسيم فلسطين لن يردع اسرائيل عن التوسع لابتلاع فلسطين كلها. وهذا ما حدث فعلاً. كانت رؤيتهم تقول ان فلسطين المقسمة أصغر من أن تستوعب اليهود المهاجرين. وان اسرائيل لن تحترم قرار تقسيم فلسطين لأنها ملتزمة بقرار تهجير اليهود اليها، وحصة اسرائيل في فلسطين المقسمة أصغر من أن تستوعب المهاجرين اليهود. واليوم تجسد سياسة بناء المستوطنات اليهودية في الاراضي الفلسطينية وفي مرتفعات الجولان السورية المحتلة، استمرار هذا الالتزام.
أما الأمر الثاني الذي حذر منه المفكرون المسيحيون، فهو ان قبول العرب بالتسوية السياسية لن يردع اسرائيل عن التوسع لابتلاع المزيد من الأراضي العربية. وهذا ما حدث فعلاً ايضاً في الجولان السوري وفي الجنوب اللبناني. وليست مدينة ايلات في خليج العقبة سوى أحد مظاهر هذا التوسع ايضاً على حساب الأرض العربية.
من أجل ذلك رفع المفكرون المسيحيون الأوائل الصوت عالياً محذرين من النتائج الوخيمة للهجرة اليهودية الى فلسطين، ليس على الفلسطينيين وحدهم، انما على أمن وسلامة الدول العربية وعلى هويتها وعيشها الوطني. ذلك ان قيام دولة يهودية ترفض الآخر المختلف دينياً وعنصرياً، لا تطمئن الى قيام دول حولها متعددة الأديان والمذاهب والعناصر، وتتمتع في الوقت ذاته بالانسجام الوطني الاجتماعي وبوحدة القرار السياسي. ولذلك عملت اسرائيل ولا تزال تعمل على ضرب هذا التجانس المجتمعي لتحويله الى تنافر وتصارع يؤدي الى تمزق الدول العربية الى دويلات مذهبية وعنصرية متباعدة ومتعادية.
واليوم في الوقت الذي تعمل اسرائيل على تهويد أنظمتها وقوانينها ببث المزيد من الروح العنصرية فيها، يتعرض النسيج الاجتماعي الوطني في العديد من الدول العربية الى محاولات التمزيق على النحو الذي عرفه العراق والسودان وقبلهما في لبنان.. وحتى مصر.
كان المفكر المسيحي اللبناني ميشال شيحا الذي عمل على صياغة دستور لبنان لعام 1936 يحذر دائماً من ان لبنان سيكون بعد فلسطين المتضرر الأول من قيام اسرائيل. ولذلك نبّه منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي من الخطر الاسرائيلي. وبالفعل فان لبنان الذي احتلت اسرائيل عدداً من قراه وأراضيه الزراعية في عام 1948، والذي منعته اسرائيل بالقوة العسكرية من تحويل روافد نهر الأردن التي تنبع في أراضيه في عام 1964، تعرض لسلسلة من الاعتداءات الاسرائيلية. أهمها احتلال الجنوب في عام 1978 والاجتياح الذي طال العاصمة في بيروت في عام 1982، ثم سلسلة الاعتداءات العسكرية وأبرزها في عامي 1993 و 1996.. وكان آخرها حرب تموز يوليو 2006.
وفي كل هذه العمليات العدوانية كان الهدف الأساس غير المباشر هو الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين. وكان صمود هذه الوحدة وتمسك اللبنانيين بها، يجسد الفشل السياسي لهذه العمليات العسكرية الاسرائيلية رغم الخسائر الفادحة التي كانت تلحقها بالاقتصاد اللبناني وببنيته التحتية.
كان أول رئيس حكومة اسرائيلي دافيد بن غوريون يردد " اعطوني كولونيلاً مسيحياً في الجيش اللبناني أعطكم دولة مسيحية متعاونة مع اسرائيل". ولقد حصلت اسرائيل على تعاون أكثر من كولونيل واحد.. ولكن وطنية مسيحيي لبنان وعروبتهم استعصت عليها دائماً.. فباءت كل اعتداءاتها العسكرية ودسائسها السياسية بالفشل. ولا يزال هذا الفشل يصاحب كل مبادراتها في لبنان حتى اليوم !!.