ياسر عرفات: الحلم الفلسطيني
بقلم د.عاطف أبو سيف
جريدة الايام 5-11-2012
كان يحلم وكنا نصدقه. كنا نعرف أن الطريق وعرة وأن المسيرة شاقة وأن العدو جبار وقدراته مهولة، وأننا ضعفاء إلا بقوة حقنا وإرادتنا، كان العالم يتآمر علينا والأصدقاء والأشقاء والجيران والمضيفون، والدول والمؤسسات والهيئات والقرارات والقمم والتوصيات كلّها كانت تتآمر علينا، وكانت حلكة الليل شديدةً لكنه كان يقول لنا إننا سنصل وكنّا نصدقه. كان يحلم، يأخذنا معه في أحلامه، يرسم لنا عالم الغد حين تتحرر فلسطين وكنا نصدقه. لم يتسلل إلينا شك لو لدقيقة أو لحظة حتى في أشد الأوقات صعوبة في أنه يقول الحقيقة. أنه يعدنا بما لنا وبما نقدر عليه، وبما لا نقدر عليه، لكننا نقدر في النهاية. كان ياسر عرفات التجسيد الحقيقي والفعلي للحلم الفلسطيني، دموعه تنهمر علينا حين نتألم، جسده يرتجف كرعشة العاشق لكنه لا ينهار، وهو يرى بؤس حالنا، لكنه وحده كان قادراً على حمل الأمل عالياً حتى يحس بدفئه جميع الفلسطينيين أينما كانوا، طاقته الإيجابية حتى وهو يضع وجهه بين كفيه غارقاً في التبصر في المستقبل، كانت تلك الطاقة تشع نوراً يضيء حلكة الظلام. كنا نعرف قسوة الواقع وصعوبة الحياة وكنا نعرف أننا شعب يواجه عالماً مدججاً بالكذب والروايات المغلوطة والأساطير العفنة، كما هو مسلح بالقرارات والمواقف، كما بالسلاح والقنابل، لكننا كنا نعرف أننا على حق وكان يقول لنا إننا على حق وإننا سننتصر. لم يكن يوجد ما يدلنا على واقعية ما يقول في مرات كثيرة إلا إحساسنا بأنه صادق معنا وأنه صادق ونصدقه وأنه يقصد ما يقول.
وحين كان يقول لنا إن الدولة على مرمى حجر فيما نحن عائدون من أزقة المخيم بعد نهارات موجعة من المواجهات وقذف الجنود بالحجارة، كان يمد يده ويقول عبر شاشة التلفاز إن الدولة على مرمى حجر، وقتها كنا نرى الدولة على طرف إصبعه وهو يشير إلى هذا المرمى.
نعرف مرات أن المنطق يقول عكس ما يعد، وأن الواقع أشد قسوةً من نور البشارة، ونحس بأن ثمة ما ينافي ما يحلم به، لكننا كنا نقتنع في النهاية بأنه يقول الحقيقة وأن ثمة ما يمكن أن يكون أكثر واقعية من قسوة الواقع وأن البطش والظلم والجبروت لا يمكن لها أن تهزمنا. لم نكن نعرف سبباً لذلك، لكننا على الأقل كنا ندرك أن وجوده هو السبب، وأن ثمة حقيقة غير منطقية هي من تحيل هذا اللامنطق إلى منطق، وهي من تعيد صياغة الواقع حتى يصير جزءاً من حكاية غير معقولة، لكنها أصل العقل وجوهر المنطق.
كان يمكن أن تجده في أي حكاية أسطورية، في ملحمة كنعانية أو بابلية أو يونانية. عالمه الخاص، حكاياته الشخصية، قصص الناس عنه، مواقفهم معه، وصفهم له، شكله، فعله، تصرفاته، حركة يديه، نظرات عينيه، دقات قلبه، كلها ليست إلا توصيفاً لعالم تقول بينك وبين نفسك لا يمكن أن يحدث، لكنه يحدث بيننا. فهو مثل كل الأبطال الاسطوريين حالم مفعم بالأمل. المنطق ما ينطق به وما يقوم بفعله، أما قوة الطبيعة وجبروت الواقع فهي ليست إلا عقبات يمكن له أن يذللها بسحره الأسطوري، بأفعاله الخارقة. والأبطال الأسطوريين كما نعاه درويش لم يكن يليق بهم إلا الموت في وسط الأسطورة. لا يمكن للبطل الأسطوري أن يموت خارج الحكاية، لذا لم يكن يليق بعرفات إلا أن يستشهد في موت مهيب أوقف العالم ولم يقعده حتى الآن. هذا ما يليق بعرفات، فرجل نذر العمر للبندقية وللمواجهة لا يموت على فراش الموت طريحاً عجوزاً. الأبطال يموتون وهم في ذروة التحدي والكبرياء والمواجهة، وهم في حبكة الحكاية.
وحده يعرف كيف تثور الناس من كلماته، ووحده يعرف كيف يهدئ من روعهم ويخفف عنهم. كان هو باروميتير الحالة الفلسطينية، مقياسها الأصوب. المعبر الحقيقي عن فلسطين، والناطق الرسمي والشرعي باسمها. كان فلسطين وكان وجهاً من وجوهها. ارتبط بها وارتبطت به. ويمكن لأي واحد منا أن يروي ألف حكاية عن هذا الرابط السحري والسري بين الرجل وفلسطين، فالناس تعرف فلسطين منه وتعرفه، فترى فلسطين في جدلية وثنائية مهولة من التماهي والعشق والتضحية. في شارع تقسيم في إسطنبول وقف رجل عجوز يسألني عن شيء. بالطبع لم يكن لي لأفهمه فهو يتحدث بالتركية. وأمام هزة كتفي سألني بالإنجليزية فأجبت، فبادر بالإنجليزية أيضاً: من أين انت؟ فقلت بالإنجليزية Palestine. لم يعرف فسأل مرة أخرى فاستدركت فقلت ما سمعته بالتركية "فيليسطين" كما يلفظونها. فقال وهو يستدير "عرفات ترحمت الله ترحمت الله". ومضى.
كان واحداً منا. لم يؤلف رواية أو حكاية مزعومة عن أصل نبيل أو ميراث أسطوري، خرج من عباءة النكبة والتشرد، كما لم نقابله في مؤتمر أو خلف شاشة تلفاز. فجأة وجدناه بيننا يتحدث عنا ومعنا، له ما لنا وعليه ما علينا. له روايته مثلنا عن كل لحظة من لحظات العمر المرير الذي عشناه حين اقتلعنا من أرضنا. تارة تجده فلاحاً ترك موسم القطاف وخرج تحت تهديد السلاح، وتارة تجده بحاراً تاه مركبه عن مرفأ يافا، أو راعياً في صحراء النقب التهم ذئب المستعمرين خرافه ليلة العيد.
وفي كل واحد منا شيء منه، القليل أو الكثير ... إنه هذا الشيء الأصيل الذي يشكل جوهر الوطنية التي مثلها عرفات وتمثلها وكان له فضل كبير في التعبير عنها. اختلف معه الكثيرون وزعل منه الكثيرون وربما شعر البعض بأنه قد يقسو عليهم، وانتقده آخرون وآخرون لكنه ظل الكل الجامع، الشخص الذي لا يختلف عليه، الرجل القادر على لملمة عباءة الشعب والسير بها في قلب العاصفة. كان صادقاً ومخلصاً. لم يكن نبياً يقدر على كل شيء، فكان بشراً يخطئ ويصيب يجتهد ويقوم بما يعتقد ويعتقد الجميع أنه الصواب، لكنه كان يفعل كل ذلك عن قناعة وبكل سعادة. يقبل قدم الجريح ويبكي الشهيد ويودع رفاق السلاح وهو ينظر في غيم المستقبل يعرف أنها طريق طويلة لكن السير فيها انتصار لفلسطين. قهر المنافي وعاد ثم عاد ثم عاد محمولاً على الأكتاف. في مثل ذلك اليوم لتبكي فلسطين.