أبو عمار مات أم قُتل؟
نصري الصايغ
جريدة السفير: 11-11-2013
الموت سُنَّة في الحياة والقتل سُنَّة في السياسة. ولا مرَّة مات أبو عمار. كان مرشحاً دائماً للقتل، والقتلة أثبتوا مراراً أنهم فاشلون، إلى أن طُرِحَ السؤال، بعد رحيله: «مات أبو عمار أم قتل؟». لعله قد قُتل بالفعل، إذ يستحيل أن يكون قد مات.
بندقيته الأولى المصوَّبة في فلسطين إلى العدو الإسرائيلي، رشحته لأن يكون شهيداً في ميادين المواجهات السرية. حمته بندقيته وذكاء الصدفة الحاد. أبو عمار صديق حميم للصدف السعيدة. نجا بأعجوبة ذات عملية فدائية.
في معركة «الكرامة»، كان مع قلة من الفدائيين (كم كان هذا اللقب جميلاً!) في مواجهة جيش الانتصار الإسرائيلي الساحق والماحق، لثلاثة جيوش عربية ـ مصر وسوريا والأردن ـ خسرت فيها مصر سيناء وجيشها، وكادت تخسر نظامها، وخسر فيها الأردن ما تبقى من فلسطين التي لم تكن له، وخسرت فيها سوريا مرتفعات الجولان، محتفظة «بانتصار» الكذبة الكبرى: «الهدف من الحرب إسقاط نظام البعث». راحت الجولان «وانتصر البعث».
في معركة الكرامة، خاض حرب مواجهة. لا حرب عصابات. أكلت جنازير الدبابات الإسرائيلية لحم فدائييه. لم ينسحب. قاتل بكل ما أوتي من صلابة وتحدٍّ و«ذكاء الصدفة»، ونجا من القتل مراراً... حَقَّ لأبي عمار في تلك المعركة أن يرفع شارته المحببة (V). لقد هزم بحفنة من مقاتليه، الجيش الذي هزم بساعات ثلاثة جيوش عربية... يومها، تكرَّست قناعة عربية شعبية عابرة للحدود: المقاومة هي الطريق إلى فلسطين. قناعة فاتت عرفات فلم يفز بها. لكن «حزب الله» كان حظه من الفوز عظيماً، في 25 أيار 2000. التحرير كان جائزة المقاومة لا المساومة.
كان على وشك أن يُقتَلَ مراراً في معارك الأردن. اختبأ وتحصَّن ونجا من «مجازر أيلول»، متخفياً بزي غريب، على ما قيل يومها، ودخل قاعة مؤتمر القمة، مجللاً بتوقيع وخسارة... لم يُقتل في الأردن، ولا في الأغوار، ولا... ولكن مقتلة أيلول، قتلت المقاومة. ومن تبقى منها، انتصب في لبنان، منهياً بذلك عهد المخيمات، فكل مخيمٍ قلعة للثورة.
ونجا من القتل مراراً في لبنان. صدفة الذكاء، تحوَّلت عنده إلى «حدس النجاة»... بيروت محاصرة، براً وبحراً وجواً. الطائرات تتصيد الفدائيين و«القوات المشتركة» اللبنانية، والبعض من الطائرات مختص بالبحث عن عرفات وقصفه. عدد الأبنية التي دمرت بالقنابل الفراغية، بعد انتقال عرفات منها بلحظات، لا يحصى. قُتِلت الأبنية ونجا أبو عمار. ولما صارت الأبنية ألغاماً من الجو، صار يبيت في سيارة مركونة في أحد الشوارع.
خرج من بيروت، وشارة النصر مرفوعة، فيما البنادق منكَّسة، ووجهة النضال إلى البحر وصحراء العرب. لا أرض لأبي عمار، لا في فلسطين ولا في دولة على تماس مع فلسطين. وحده البحر مسموح، على أن تطأ سفن التراجيديا شواطئ «قرطاجة أليسار» المطرودة من صور، إلى تونس.
وذات يوم، وبعيداً جداً عن فلسطين، قصفت إسرائيل مقارّ منظمة التحرير، ونجا أبو عمار، كان الدمار رهيباً. إنه «ذكاء الصدفة» التي تحرم العدو، صاحب النزهات الجوية في الأجواء العربية بلا حساب للخطر، من تحقيق الهدف: قتل أبي عمار.
من كانوا معه، من قادة كبار، سقطوا الواحد تلو الآخر في بيروت، قتلت إسرائيل، بقيادة ايهودا باراك، كمال عدوان ويوسف النجار وكمال ناصر، واغتالت أبو حسن سلامه، وماجد أبو شرار وآخرين كثراً، من رفاق السلاح وقادة الطلقات الأولى، التي أنبأت بعصر المقاومة. بعد ذلك، سقط أبو جهاد، مهندس الانتفاضة الأولى، وأبو أياد التوأم التاريخي لقائد الثورة، ومطلق «أيلول الأسود»، وذراعها الفاعل «أبو داود».
لم تكن إسرائيل وحدها في معركة العداء لأبي عمار. سوريا على تربُّص مزمن به. لم تطمئن لمسيرته ولم تستطع احتضانه وتدجينه وإلحاقه بها كفرع من فروعها لأسره في ملفاتها الإقليمية. ظل عاصياً عليها، معتصماً بقلم الحبر. ظن، وفي بعض الظن حلال، أن سوريا لا تريد توقيعه، بل التوقيع عنه. دخلا في حرب سرية مفتوحة. بالغ أبو عمار في عدائه وبالغت دمشق في مطاردته... كانت سوريا تتصرف على قاعدة انها «الأم الشرعية لفلسطين»، فيما كان عرفات يتصرف وكأنه «الابن الشرعي» لفلسطين، وحق البنوَّة أقوى من حق الأمومة. الأمومة تصادر، البنوة تقاتل بحرية وتفاوض بشروط لأنها بلغت سن الرشد الوطني. ولا ينافسه في إرثها أحد.
نجا أبو عمار في طرابلس وبيروت. صوَّبت سوريا عليه، ولم تصبه. ولكنها أقصته إلى البعيد. فالنظام في سوريا لا يطيق صدّام، لا يريد أبا عمار، يداعب الملك حسين بخشونة، فيما لبنان قد تم القبض عليه بدعوة من قوى الانعزال صاحبة اليد الطولى في قتال الفلسطينيين ومساندة الإسرائيليين وصولاً إلى تنصيب إسرائيل لبشير الجميل رئيساً، وذبح الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا، وقبلها تل الزعتر.
كانت إسرائيل راغبة في شرق أوسط بلا أبي عمار، وكانت الأنظمة العربية تعمل على إخلاء الشرق الأوسط من أبي عمار، بالوسائل السياسية المتاحة، ومنها الاغتيال والقتل... ولكنه نجا.
حظ الصدفة وذكاؤها، لا وزن له في الجو. الطائرة التي هوت به من أعلى السماء إلى الأرض، يحكمها قانون الموت المحتم... لقد نجا. سقطت الطائرة به ولم يمت. حماه الرفاق بأجسادهم وعبقرية تطويع المستحيل. حمته النيران المشتعلة في الصحراء الليبية، بعد سقوط الطائرة، من الوحوش الكاسرة.
إنه بسبعين روحاً، وليس بسبع أرواح.
بعد الانتفاضة الأولى، إلى فلسطين عاد، يجرجر أذيال أوسلو إلى أن بلغ الانتفاضة الثانية. أسقطه كلينتون من الشراكة. تركه فريسة لشارون. عدوه «الصديق» رابين كان قد قتل. هو لم يقتل. نجا من الموت ولم ينج من الحذف. حاصره شارون في المقاطعة. فوهة مدفع الدبابة أرخت ظلها على غرفة نومه. تخلى عنه العرب، رأوه فريسة سهلة، فتحضروا للاحتفال بنهايته. قطعوا خطوط الهاتف عنه، لم يتصل به رئيس أو أمير أو ملك. كلهم أصغر منه ولكنهم باتوا أقوى منه... تحصَّن بالقلم ولم يوقع، وتخلى عن البندقية، فما عادوا بحاجة إلى توقيعه بل إلى وقوعه النهائي.
وعندما اجتمع الحكام العرب في مؤتمر القمة في بيروت، وافقوا على مبادرة سلام عربية، مكتوبة بنص أميركي، ووقعوا على منع عرفات من الكلام، ولو من داخل المقاطعة المأسورة. يومها، تم تنفيذ التصفية بأيد عربية وبحضور جامعة عربية مكتملة النصاب.
تلك كانت النهاية التي تحتاج إلى خاتمة سرية.
هل مات أم قتل؟
لا أحد يريد الجواب عن هذا السؤال. لا أحد يهتم إن كان قد مات أم قتل. فعرفات ممنوع من الحضور ولو ميتاً... والأصح، ولو مغتالاً. اغتياله يحرج الجميع. فلتكن ضالة القادة العرب: «لقد مات». ولا ضرورة لمحكمة دولية.