يوميات مواطن عادي .... العدوان الاسرائيلي... مغازي مفهوم المقاومة
وكالة معاً
ما إن بدأ عدوان الإحتلال الإسرائيلي الحالي على قطاع غزة تحديداً، حتى بدأ المجتمع الفلسطيني عموماً يشهد تغييرات عديدة وعلى مستويات مختلفة فيما يتعلق بموضوع الصراع مع الإحتلال الإسرائيلي. بل إن بعض هذه التغييرات كانت سريعة الى الدرجة التي أُطلق عليها في بعض الأحيان صفة "مفاجأة". هذه التغييرات لم تبدأ بالطبع بتصريحات السيد ياسر عبد ربه لوسائل الإعلام التي حذّر فيها بعد أسبوعين من بدء العدوان قائلاً "إن سقوط غزة بداية لتدمير المشروع الوطني الفلسطيني"، ولم تنتهي، وليس من المتوقع أن تنتهي عند تصريحات السيد رياض المالكي وزير الخارجية الفلسطينية قبل يومين قائلاً "يجب ان لا نرتكب نفس الاخطاء عند العودة للمفاوضات".
أوردت هنا وعن قصد هذين المثالين للإشارة الى مدى التغييرات التي لاحظها المواطن الفلسطيني العادي، وإنقسم الرأي العام حولها بين من يصدقها ويعتبرها أحد نتائج صمود المقاومة، ويعتبرها آخرون محاولات لركوب الموجة على ضوء صمود المقاومة، وبينما لم يصدقها آخرون من حيث الأساس. والمغزى هنا أن السيد عبد ربه يمثل في تفكير قطاع واسع من المواطنين رمزاً من رموز إتفاقيات أوسلوا وأحد عرابيها، وعنوان لما يُعرف بإسم "تحالف السلام الفلسطيني- الإسرائيلي". أما السيد المالكي فيمثل لدى نفس القطاع من المواطنين الموقف الرسمي للسلطة الوطنية الفلسطينية، وخاصة في الإنتقادات التي وُجهت لها في ترددها وبطىء حركتها في التحرك لمواجهة العدوان، ومنها على سبيل المثال في مسألة التوقيع على إتفاقيات جنيف والتوجه لمحكمة الجنايات الدولية لمحاسبة إسرائيل على عدوانها.
لن أدخل هنا في مدخل مناقشة أهداف ودوافع وخلفية أصحاب هذه التصريحات وإتجاهاتهم ومواقفهم ومواقعهم الرسمية والتمثيلية، وإنما أريد تسليط الضوء على ما أعتقد أنه قاسم مشترك بينهما وهو المعنى والمضمون الذي يعكسه ويعبر عنه كلا التصريحين، هذا فضلاً عن أن كلاً منهما كان مفاجئاً، على الأقل بالنسبة لقطاع واسع من الرأي العام للمجتمع الفلسطيني. وأنا هنا أعتقد أن الموقفان يكملان بعضهما البعض من ناحية، ومن ناحية أخرى أنهما يعبران عن التغييرات السريعة التي أشرت إليها في الفقرات أعلاه، والتي كانت مفاجئة بالنسبة للكثيرين.
كان بإمكان المتابع لوسائل التواصل الإجتماعي ملاحظة التغييرات، وربما يصاب بالصدمة من طريقة التفاعل، التي تعكس وتعبر عن التغيير الجاري في المواقف والإتجاهات. كان هناك من ينتظر إطلاق صواريخ المقاومة على إسرائيل، وهناك من إحتفل بذلك. خرج آلاف المواطنين لإنتظار ساعة القصف التي حددتها إحدى فصائل المقاومة لمشاهدة الصواريخ وهي تسقط على المدن الاسرائيلية. كان يمكن أن تجد الكثير من تحولوا فجأة الى إعلاميين يلتقطون الأخبار، ويسارعون الى نقلها بصورة "عاجلة". بعضهم كان يقضي معظم ساعات يومه وليله باحثاً عن أخبار المقاومة، وخسائر الإحتلال، ناقلاً للأخبار، ومحرضاً على التحرك ضد الإحتلال، وبعضهم وضع نفسه وعائلته صراحةًفي خدمة المقاومة. هناك من دعى لتصعيد الكفاح المسلح في كل الجبهات، وهناك من ربط قذائف الإحتلال ببضائعه ومنتجاته، وباشر بحملات لمقاطعتها. كان هناك من يطلق الفتاوي ضد الإحتلال ومن يكتب القصائد لتمجيد المقاومة، ومن يؤلف ويغني الأغاني الحماسية. كان هناك ناشطين في مجال حقوق الإنسان يكفرون بهيئات حقوق الانسان وعجزها، ويتهمونها بالإنحياز. وكان هناك من يوزع الحلوى إحتفالاً بإعلان خطف أحد جنود الإحتلال. كان هناك سياسيين عرف عنهم طوال سنوات طويلة أنهم على الأقل ليسوا مع المقاومة المسلحة، وتغير خطابهم فجأة. بإختصار المتابع كان يعجز أحيانا عن تفسير سرعة وشدة التغير الحاصل على أصدقائه ومعارفه والمتواصلين معه عبر هذه المواقع، ويكاد يشك في بعض الأحيان أنه تم إختراق الحسابات الالكترونية للأصدقاء أو المعارف من قبل أشخاص آخرين مختلفينولا علاقة لهم بأصحابها الأصليين من بعيد أو قريب.
كلمة السر كما أراها في التغييرات، التي أعتقد أننا لا زلنا في بداياتها، تكمن في مفهوم واحد هو "مقاومة". وبالنظر لهذا المفهوم في السياق الفلسطيني خلال العقود الثلاث الأخيرة فإن جملة من العوامل السياسية والإقتصادية والإجتماعية المتغيرة تركت تأثيراً واضحاً عليه. وتركيزي سيكون على العوامل السياسية، علماً أنه لا يوجد حد فاصل وقاطع بينها وبين العوامل الأخرى. من الناحية السياسية فإن المحطة الأكثر عمقاً تأثيراً تلك التي إرتبطت فيما أصبح يُعرف بمسيرة السلام، التي إنطلقت بعقد مؤتمر مدريد للسلام وتُوًجت بعقد إتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وإقامة السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994.
بلورت هذه المرحلة ملامح وتفاصيل منهج وتوجه يقوم على فلسفة إدارة الصراع مع الإحتلال عبر أسلوب المفاوضات. بل وإعتبرها أحياناً هي الأسلوب الوحيد، ولم تؤثر مسألة إضطرار هذا التوجه الى تبني أسلوب "المقاومة الشعبية" على فلسفة هذا التوجه العامة. وتبين في عدة أحيان أنه حتى المقاومة الشعبية التي يريدها إنما يجب أن تكون في إطار ومواصفات معينة، ولا تتعدى سقف "تحسين" الموقف التفاوضي، كلما رأى حاجة لذلك. وحتى إستناد هذا التوجه الى نقطة القوة التي تكمن في التوجه للمؤسسات الدولية، والإرتكاز الى قوة وشرعية قرارتها، إنما كانت أيضا لأسباب تكتيكية في غالب الأحيان، وأُفرغت من مضمونها وجوانب قوتها حتى قبل المباشرة بها. وغني عن القول والتفصيل حول موقفه وتوجهاته من أشكال النضال الأخرى ضد الإحتلال، ومنها النضال المسلح، التي رأى فيها في أحسن الأحوال لا تضر الإحتلال بقدر ما تضر الشعب الفلسطيني، عبر إستغلال الإحتلال لها كمبرر لزيادة حدة وقوة عدوانه، أو على الأقل تهربه من مسيرة السلام.
هذا الإتجاه لم يقتصر بإعتقادي على منطقة جغرافية معينة في الوطن، كما يحلو للبعض الإدعاء، وخاصة بعد تكريس حالة الانقسام الفلسطيني قبل ما يقارب السبع سنوات. كما لا يقتصر أيضا على حزب سياسي معين دون غيره، أو في المجال السياسي دون سواه. إنه فلسفة كاملة ومنهج وجد تعبيراته وتجسيده في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وغيرها، في حقول التعليم، الصحة، الخدمات الإجتماعية، الإقتصاد والمال، الأمن... وغيرها من حقول الحياة. وإنعكست آثاره وتطبيقاته في التفكير والتخطيط وبناء وإدارة الهيئات والأطر والمؤسسات، وحتى على الأحزاب والقوى التي تعتبر نفسها،على الأقل، خارج هذا التوجه ومعارضة له. بإختصار هذا التوجه كان يفرض نفسه ويمارس كل نفوذه وقوته في كل مجالات الحياة. لدرجة أن أي معارضة أو إعتراض أو توجه معارض له في السياسة والإقتصاد والمؤسسات والهيئات على إختلافها كان يلاقي المحاصرة والتحجيم بمختلف الأشكال والوسائل. وبدا الأمر وكأنه جرى "تطبيع" المقاومة والمعارضة في بوتقة ومسار محدد،سواء بالعصا او بالجزرة أو بكليهما معا.
المعارضة الوحيدة التي كان يُسمح بها هي تلك التي تسير على الطريق المرسوم لها، وهو طريق يقود الى تجميل صورة ووجه النظام فقط. وهي مرغوبة ومطلوبة، بل ومدعومة ومُشجعة طالما سارت في هذا المسار، وفي إطار النظام، لا تشوش أو تعكر صفوه، أو تقوم بما يهز أركانه ومنابع قوته ونفوذه. وهنا أريد التأكيد مرة أخرى أن هذا لا ينطبق على النظام السياسي فحسب، وإنما يمتد أفقياً وعامودياً في كل مجالات وقطاعات الحياة. وإلقاء نظرة على مؤسساتنا المختلفة خططها وبرامجها،طرق ومناهج عملها، أدائها وأدواتها خلال السنوات الأخيرة يؤشر على ذلك. فهي، في غالبيتها، تعاني من تفشي عدد من ظواهر الترهل، وضعف الأداء، وتراجع ثقة المجتمع بما تقوم به، وإقتصارها في معظم الأحيان على نُخب في مختلف المجالات. وحتى تلك التي يُفترض بها أن تكون مدافعة عن حقوق الفئات والشرائح المختلفة، ما لبثت أن اقتنعت وأتقنت معادلة أن الطريق الأسلم والأسهل هو إتباع سياسة إمساك العصا من الوسط.
مقابل هذا التوجه كان هناك توجه معاكس، وفلسفة مختلفة، في السياسة ترى أن المواجهة مفتوحة مع الإحتلال، بكل الأشكال والتعبيرات، بما فيها المسلحة. والمغزى هنا ليس في طبيعة وتأثير هذه الأسلحة، وإنما في الفكرة والإرادة التي تستند إليها وتعبر عنها، وهي الإيمان بمفهوم المقاومة في علاقتها بالإرادة، التي إذا توفرت فإنها ستنعكس على التفكير والتخطيط والأساليب والأدوات وتوفير الإمكانيات اللازمة، وغيرها من عوامل القوة التي تجعل من تحقيق الأهداف مسألة ملموسة وقابلة للتحقيق.
دون الخوض في تفاصيل أكثر حول كلا الإتجاهين، أوالتعبيرات المختلفة لهما، وآثارهما الكبيرة جداً والمتشعبة التفاصيل بقدر تَشعّب تفاصيل الحياة، فيمكنني القول أنه وعلى مدار السنوات الأخيرة بدا أن التوجه الأول هو السائد، وأن التوجه الثاني إما أفلس وإنتهى، أو أنه يعاني من سكرات الموت الأخيرة، وبإنتظار الضربة الأخيرة والقاضية. ليس فقط سياسياً، وإنما أيضاً في كل المجالات. لكن التغييرات التي تحدثت عنها أعلاه قلبت الصورة رأساً على عقب، ففي موضوع الصراع مع الإحتلال ظهرت أولى المؤشرات الواضحة على أن منهج المقاومة لا يزال حياً يتنفس، بل إنه يتعافى، خلال التحرك الشعبي الذي أعقب حادثة خطف وحرق الطفل المقدسي محمد أبو خضير على يد مجموعة متطرفة من المستوطنين. صحيح أنه كانت هناك مؤشرات أخرى قد سبقت ذلك كتصدى المواطنين في أكثر من مكان ومناسبة للمستوطنين وإعتداءاتهم، إلا أن الحدث الفاصل والذي يجب أن يسجله تاريخ نضال هذا الشعب هو العدوان الواسع الأخير الذي بدأ الشهر الماضي على قطاع غزة. وما كشفت عنه الأيام اللاحقة ليس فقط من قوة وقدرة المقاومة على الصمود في وجه العدوان والرد عليه، والإمكانيات والتحضيرات التي كانت المقاومة قد أعدتها، لدرجة فاجأت حتى الإحتلال وأجهزته الأمنية والعسكرية قبل المستويات السياسية. وإنما أيضا كشفت حجم الإلتفاف والدعم الذي حظيت به، والثقة التي نالتها. المفاجأة الأكبر بإعتقادى هو إرادة الصمود والبقاء والمقاومة التي يمتلكها أبناء شعبنا في قطاع غزة، وصمودهم رغم شلال الدم الذي سفحه الإحتلال وآلته الحربية.
منذ الأيام الأولى للعدوان يجتهد الكثير من المحللين في محاولة تحليلم هو المنتصر ومن هو المهزوم في هذه الجولة، ويستخدم كل منهم عدد من التحليلات والإستنتاجات المستندة الى مؤشرات من مثل خسائر كلا الطرفين البشرية، العسكرية، الإقتصادية والمعنوية... وغيرها. في حين يفضل محللون آخرون التروي بإنتظار نتائج المفاوضات الجارية حالياً لتثبيت "وقف إطلاق النار"، وتحت أي ظروف وشرط ستكون، للتقرير في مسألة من هو المنتصر. أنا أعتقد دون الإعتماد على أي من المؤشرات السابقة، أن المنتصر من هذه التطورات المتسارعة هو الشعب الفلسطيني أولاً، ونهج المقاومة ثانياً. والمؤشر الوحيد الذي إستخدمته هو مؤشر متابعة كثيفة لردود فعل وتصرفات المواطنين الفلسطينيين عامة، وبشكل خاص عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي المختلفة التي تحدثت عنها أعلاه.
باعتقادي أنه إذا كان بعض المحللين يعتقدون أن المقاومة إنتصرت لأنها حرصت طوال سنوات على إمتلاك أسلحة ومعدات تساعدها على الصمود والتصدي، بل والرد المؤثر على عدوان الإحتلال، وحفرت الخنادق والإستحكامات، ودربت العناصر والمقاتلين وغيرها من الإستعدادات. وإذا كان آخرون يعتقدون أن صواريخ المقاومة أثبتت أنها ليست كرتونية، بل لها مخالب وقادرة على التسبببالقلق والألم للإحتلال. فإنني أعتقد أن ما حصل خلال شهر من العدوان كان بمثابة صاروخ كبير جداً ضرب رؤوسنا، وأخرجنا من حالة "السكرة" التي عشنا فيها لعشرين عام مضت، وأعادنا الى حالة "الفكرة"، ونفض غبار ووحل هذه السنوات عن وجوهنا وأجسادنا وعقولنا.صاروخ أعاد لنا الذاكرة التي عملت المسّاحات على مسحها طوال تلك السنوات،وذكرتنا بذلك المفهوم الذي حاولو إجتثاثه، حتى من الكتب القديمة. الآن نضرب على جبيننابباطن الكف ونقول: نعم المقاومة. هي بالأساس إرادة، وهي الحد الفاصل بين منهجين يرى كلاهما الواقع على طبيعته، منهم من يسلم به ويستسلم له، ومنهم من يبحث عن إمكانية وكيفيةووسائل وأدوات تغييره. ومن يمتلك الإرادة فإنه قادر على النضال والمقاومة وتحقيق ما يريده ويطمح إليه.