التاريخ : الجمعة 22-11-2024

السفير دبور يستقبل القائم بأعمال سفارة دولة الكويت في لبنان لمناسبة انتهاء مهام عمله    |     السفير دبور يستقبل رئيسة بعثة اللجنة الدولية للصليب الاحمر في لبنان    |     دبور يزور مثوى الشهداء ويضع إكليلاً باسم الرئيس عباس في الذكرى العشرين لاستشهاد الرمز ياسر عرفات    |     السفير دبور يتفقد ابناء شعبنا في مخيم الرشيدية    |     الجبهة الديمقراطية تعرض مع السفير اشرف دبور تداعيات العدوان الاسرائيلي على اللاجئين والنازحين منهم ف    |     السفير دبور يستقبل القائم باعمال سفارة دولة الكويت في لبنان    |     السفير دبور يستقبل المفوض العام لوكالة الاونروا فيليب لازاريني    |     السفير دبور تفقد النازحين من ابناء شعبنا في مراكز الإيواء في مدينة ومخيمات صيدا    |     السفير ديور تفقد النازحين من ابناء شعبنا في مراكز الإيواء    |     تدين قيادة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان العدوان الصهيوني المتواصل على الشعبين الشقيقين ال    |     "فتح" تنعى الأمين العام لحزب الله الشهيد حسن نصر الله    |     اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير تعزي باستشهاد الأمين العام لحزب الله    |     الرئيس يعزي باستشهاد أمين عام حزب الله حسن نصر الله    |     برعاية سفارة دولة فلسطين: توقيع اتفاقية تعاون بين حملة المطران كبوجي ووكالة الاونروا    |     35 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى    |     البنك الدولي: الأراضي الفلسطينية تقترب من السقوط الاقتصادي الحر وسط أزمة إنسانية تاريخية في قطاع غزة    |     مصطفى خلال الاجتماع الوزاري المشترك في نيويورك: حُقوقنا في تقرير المصير والعودة والحياة والحرية والك    |     الرئيس أمام الجمعية العامة: نطالب بتجميد عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة    |     شهداء وجرحى في قصف للاحتلال على مدينة غزة    |     السفير دبور يستقبل منسق لجنة الطوارئ الوطنية اللبنانية وزير البيئة ناصر ياسين    |     الرئيس يهاتف زوجة المناضل سامي مسلم معزيا بوفاته    |     الرئيس ينعى المناضل الوطني الكبير سامي مسلم    |     بمشاركة الرئيس: الجمعية العامة للأمم المتحدة تواصل أعمالها في نيويورك    |     رئيس الوزراء يبحث مع غوتيريش خطوات تنفيذ قرارات الأمم المتحدة لوقف العدوان وإنهاء الاحتلال
أراء » أو كما قالت الوالدة
أو كما قالت الوالدة

أو كما قالت الوالدة

الحياة الجديدة-احمد دحبور

لا أدري لماذا يتركز خيال المؤمنين عادة على الرعب من جهنم والعياذ بالله، باعتبارها محيطا من الحريق واللهب، مع ان الدين الاسلامي بما يشكله من نسبة عالية في البشرية، لم يبخل في اعطاء الجحيم صفة البرد المميت، فضلا عن الطعام الذي من ضريع، واذا لم اكن هذه اللحظة في وارد المقارنة بين الجنة والنار، فإنني اذكر للشاعر الامريكي روبرت فروست قوله، إن الجحيم التي يخافها حقا هي جحيم الصقيع والبرد الذي يجمد الاطراف، واذا كان الزنادقة والملحدون يستبعدون كلا من الجنة والنار فان الحياة الدنيا التي اتخمتنا حتى الفزع من اهوال النار، تقدم لنا هذه الايام صورة تقريبية اولية للتعريف بجحيم البرد والزمهرير..
صحيح ان المؤمنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولكن الصحيح ايضا ان ذلك يتم في عالم غير هذا العالم، اما الذي يحدث الآن فهو اننا نتلظى - اذا جاز التعبير - بالبرد القارس حتى لنفهم دلالة الوصف العربي الجميل للنار بأنها فاكهة الشتاء، اذ لولا هذه «الفاكهة» لتيبست اطرافنا واصبحنا في خبر كان بعد ان كان اسمها الانسان..!
في طفولتي البعيدة التي اكاد اذكرها اشبه بكابوس، كنا نتدفأ على وقع حكايات الام، ويخبرني كبار السن في بيتنا انني كنت ارتجف باكيا: انا خضران.. ويفهم خالي ذو الشكيمة المتينة انه عندما يكون الولد «خضران» فهذا يعني انه متجمد من البرد، والخال القوي الحنين كان قد تحمل من اهوال الدنيا اننا اصبحنا لاجئين، لكنه لا يتحمل ان يرى ابن اخته الطفل وهو «خضران» يبكي من البرد.
انا بالطبع لا اذكر تلك الايام الا كقطعة من كابوس بعيد، وان ظل البرد مؤلما ومحبطا حتى بعد ان بلغت سن الشباب وما بعد الشباب، ولكنني اذكر ان خالي رحمه الله، كان يكاد يجن جنونه غيظا من البرد الذي لا يجد له دافعا، حتى انه كما تقول امي، انتزع خشب سريره الفقير واحرقه ليطرد غول البرد عن اطراف ابن اخته الحبيب.
كنا، شأن اللاجئين الى سورية، وتحديدا حمص بلد الزوابع والرياح والثلوج، نعيش في مجمع من التوتياء مقسم الى غرف متراصة، وكان يمكن للغرفة الواحدة ان تستوعب حتى ثمانية افراد، وكان اولئك الثمانية يلوذون بمنقل مزود بالفحم، واذا عز الفحم فلا بأس في قطع الخشب التي لا اعرف كيف احتالت عليها عبقرية الام، التي لا هم لها الا ان يعيش اولادها وبناتها غصبا عن زمهرير الشتاء ولهيب الصيف، ولكن ماذا ان عز الخشب، بما فيه خشب السرير المرحوم؟ ايامها كانت لدينا مدفأة استثنائية يصعب تصديق وجودها، تلك هي حكايات الام التي تسرد سيرة حياتها، فأرحل مع تلك الطفلة التي بيعت، وهي في الخامسة، بيع الرقيق الى تاجر تركي!! وحتى تتشبه الرواية الذاتية بحكايات الف ليلة وليلة، فإن ذلك التاجر كان في بيته جارية عربية، وقد اشفقت تلك الجارية على الطفلة التي جيء بها في ظروف لا يعلم تفاصيلها الا الله، فراحت تسلّي الطفلة بحكاياتها الخيالية وتستفسر منها عن اسماء من تذكر من اهلها، وهكذا امكن لمعجزة غامضة ان تصون ذاكرة الطفلة ان كان لها ذاكرة، حتى تعود الى اهلها في حيفا ان كان في العمر بقية، ولقد كان في العمر بقية، فعادت الطفلة الضائعة وقد اصبحت فتاة يانعة، الا ان تلك قصة اخرى..
اما القصة التي تشغلني فصولها، الآن على الاقل فهي ان الطفلة قد عادت الى اهلها واصبحت امي وكانت مزودة بخيال حكائي مدهش، وعشق خرافي لجبل اسمه الكرمل، ولعلها لم تحب شيئا في حياتها المديدة اكثر من الكرمل واولادها الذين انجبتهم بعد زواج غامض اصبح قدرها وتاريخها الجديد.. الا انها يا فرحة ما تمت، فلم تكد تهنأ باهتداء عمتها اليها، وزواجها لاحقا بابن عمتها، وتسعد بالبنات والبنين، حتى وقعت الكسرة بفتح الكاف، فهكذا كان آباؤنا وامهاتنا يطلقون على النكبة وبعد الكسرة وجدت الصبية التي اصبحت امي، انها وزوجها واولادها وبناتها لاجئين في قرية سورية يسكنها الشركس، واسم القرية عين زاط، اي عين النسر، وشيئا فشيئا بدأت الصبية التي اصبحت أماً تتفاهم مع محيطها الجديد، الى ان حضرت عرسا فتغيرت حياتها؟؟ كيف؟
يقال ان الصبية المزودة بخبرة تركية في اعداد الطعام قد اسهمت في صنع طعام عرس بنت الجيران، وسعدت ام ميرزا - وهي والدة العروس - بالمهارة التركية المشهورة في اعداد المطبخ التركي، وتعبيرا عن سعادتها رفعت يديها الى السماء ودعت ان تحظى جارتها اللاجئة بعريس لائق بابنتها الشابة فيأتي من يخطفها ويستتها - اي يجعلها سيدة محترمة وجنت امي من التعبير الغريب: «يخطفها» فأبلغت اليها الجارة - بالفخر والتفاؤل - ان من عاداتهم تحقيق الزواج الكريم للبنت المعدّلة بأن تتزوج الفتاة «خطيفة».
وحملت المرأة المذعورة ذلك النبأ الصاعق الى زوجها، وجن جنون ابي.. اما خالي ذو المزاج الناري فأعلن اننا يجب ان نغادر هذا البلد.. وفورا في عز الليل!!
وهكذا تقودنا التغريبة الفلسطينية الى مدينة حمص..
لم يكن المخيم قد نشأ بعد، فلجأنا الى مغارة ضخمة - كما تقول امي - متشكلة من تجويف كبير في خاصرة قلعة ضخمة، لنجد ان فلسطينيين آخرين قد سكنوا هناك ايضا، وكان الامر في غاية الحرج والاحراج، لأن المغارة الشاسعة نسبيا ليس فيها جدران تفصل اللاجئين بعضهم عن بعض، بل هم يعيشون وينامون متجاورين، ولما كان الامر شبه مستحيل على مستوى الحياة الاسرية، فقد كان لا بد من البحث عن مأوى جديد..
كان المأوى المقترح فضاء ملحقا بالثكنة العسكرية في القسم الجنوبي من المدينة، وقد هرع اليه لاجئون آخرون، وسرعان ما ظهرت الخيم والعرائش لتنشأ بعد ذلك ظاهرة اسمها «البركس» والبركس هذا محيط من التوتياء مقطع من الداخل بحيث يصبح غرفا في واقع اربعة امتار بأربعة امتار.. كان لكل اسرة كبيرة العدد غرفة من هذه البركسات، اما الازواج الشباب فقد تم تدبير امورهم في عرائش صغيرة واكواخ اسمنتية، وهكذا نشأت ظاهرة المخيم.
في المخيم تشكلت المرافق العامة، فقد تم ايجاد دورات مياه جماعية. وصنابير مياه للشرب اسمها «العين» وكان هناك - في المخيم كله - حمام واحد للاغتسال يخصص للرجال او النساء حسب مواعيد محددة في ايام محددة، ثم اخترع اللاجئون فرناً ولم يلبثوا ان ألحقوه بفرن آخر.. ثم اصبح لدينا «مستشفى»!!..
ولم يكن المستشفى الا مستوصفا انشأته وكالة الغوث لخدمة اهل المخيم الذي اصبح عدده يزيد على عشرين ألف نسمة..
هناك عشنا، وتزايدنا، والثري المسعد بيننا من اتيح له ان يلحق بيته بكوخ صغير، وهكذا حققنا معجزة البقاء على قيد الحضور الوطني، فلا يموت احد ناقصا عمرا، او كما قالت الوالدة، لقد كان لنا ان نعيش.. فهل نعيش حتى نعود؟؟

 

 

2015-01-13
اطبع ارسل