تطورات مستغربة فلسطينياً..
جريدة المستقبل 20-1-2011
كتب خيرالله خيرالله
ثمة تطورات مستغربة تشهدها فلسطين حاليا. على سبيل المثال حماسة "حماس" التي لا حدود لها لما يسمّى "التهدئة"، اي الى وقف اطلاق الصواريخ من غزة في اتجاه الاراضي الاسرائيلية؟ لماذا كل هذه الحماسة ومن اين اتت؟ انه سؤال يطرح نفسه بالحاح في ضوء الاجتماعات التي عقدتها الحركة ممثلة بقيادييها في القطاع مع ممثلي الفصائل الفلسطينية الاخرى. شددت الحركة في تلك الاجتماعات على ضرورة وقف اطلاق الصواريخ للحؤول دون عدوان اسرائيلي جديد. كررت الحكومة المقالة برئاسة السيد اسماعيل هنية هذه المقولة وقررت ارسال قوات لضبط الاوضاع في كل المناطق المحاذية للحدود الدولية للقطاع، وهي الخطوط التي تفصل غزة عن الخطوط الاسرائيلية التي انسحب الاحتلال الى خلفها صيف العام 2005 عندما كان ارييل شارون لا يزال رئيسا للوزراء.
انه بالفعل موقف مثير للاستغراب لـ"حماس" التي اكدت علنا بلسان الناطقين باسمها انها تستجيب عمليا لرسالة مصرية جاءت بعد استقبال الرئيس حسني مبارك لرئيس الوزراء الاسرائيلي بيبي نتنياهو قبل ايام قليلة في شرم الشيخ. في ذلك اللقاء، اكّد نتنياهو لمبارك ان اسرائيل ستهاجم غزة في حال استمر اطلاق الصواريخ. فما كان من مصر الاّ ان نقلت التحذير الى "حماس" حرصا منها على تفادي حرب جديدة تستهدف القطاع.
جرت العادة ان تغفل "حماس" الرسائل المصرية او العربية. فجأة صارت للرسالة المصرية قيمة. انه امر محيّر بالفعل. امس كانت هذه الصواريخ كفيلة بتحرير فلسطين من البحر الى النهر، او من النهر الى البحر، لا فارق. اليوم بات مطلوبا اكثر من اي وقت تناسي وجود مثل هذه الصواريخ حرصا على اهل غزة. لماذا لم تقدم "حماس" على استخدام لغة العقل والمنطق في اواخر العام 2008 لتفادي ارهاب الدولة الذي مارسته اسرائيل في تلك الفترة؟
دمّرت الدولة العبرية اواخر العام 2008 ومطلع العام 2009 ربع البنية التحتية للقطاع تقريبا وقتلت ما يزيد على الف واربعمئة فلسطيني بينهم كثير من الاطفال والنساء والمدنيين. الى الآن، لا تزال عائلات غزاوية في العراء ولا يزال الحصار مستمرا فيما العالم يتفرج وكأنه غير معني بالمأساة الانسانية التي يشهدها القطاع الذي لا تزيد مساحته على اربعمئة كيلومتر مربع ويعيش فيه اكثر من مليون ونصف مليون انسان.
كان في استطاعة "حماس" تفادي الاعتداءات الاسرائيلية على غزة لو تعاونت منذ العام 2005 مع السلطة الوطنية من اجل القضاء على فوضى السلاح. كانت هناك فرصة ذهبية امام الفلسطينيين لتقديم نموذج لما يمكن ان تكون عليه الدولة الفلسطينية المستقلة. بدل اللجوء الى فوضى السلاح والكلام الفارغ عن استخدام غزة منطلقا لتحرير فلسطين، كل فلسطين. كان في الامكان العمل على تأكيد ان الفلسطينيين لا يضمرون الشر لاحد وان كل ما يريدونه هو دولة مستقلة تعيش بأمان في المنطقة. كان في الامكان استخدام غزة منطلقا لتحقيق حلم الدولة بدل اطلاق الصواريخ العشوائية التي لم تخدم سوى اسرائيل.
ليست "حماس" وحدها التي تتحمل مسؤولية التدهور في غزة وصولا الى انقلاب منتصف العام 2007. هناك مسؤوليات تتحملها السلطة الوطنية الفلسطينية و"فتح" ايضا. لكن مشكلة "حماس" تكمن في انها لم تستوعب معنى التخلص من الاحتلال من جهة والاسباب التي دفعت اسرائيل الى الانسحاب من غزة من جهة اخرى. اعترف المسؤولون الاسرائيليون في حينه، وعلى رأس هؤلاء دوف فايسغلاس مدير مكتب شارون، ان الانسحاب الكامل من غزة استهدف السماح بالتركيز بطريقة افضل على الضفة الغربية. اسرائيل انسحبت من غزة لتكريس احتلالها للقدس الشرقية ومتابعة الاستيطان في الضفة. كانت صواريخ غزة من جملة المبررات التي استخدمتها الحكومات الاسرائيلية للقول ان لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه بدليل الفوضى التي تعمّ القطاع واستمرار التحرشات من نوع خطف الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط صيف العام 2006. الآن بعد اربع سنوات ونصف سنة على خطف شاليط، لا تزال "حماس" اسيرة الجندي الاسرائيلي الاسير الذي يستخدم لابقاء الحصار الظالم الذي يعاني منه اهل القطاع.
ما الذي حصل كي تنادي "حماس" فجأة بالتهدئة؟ من اين هبط الوحي على الحركة التي لا تمتلك بأي شكل حرية قرارها؟ الاهمّ من ذلك كله لماذا مغازلة مصر التي صارت بقدرة قادر "الشقيقة مصر"؟ انها بالفعل اسئلة محيرة قد تكون مقدمة لتوجيه رسالة فحواها ان استيلاء "حماس" على السلطة في غزة لا يعني بالضرورة متابعة التحرش باسرائيل. متى تصمم "حماس" على شيء، تصبح قادرة على الذهاب حتى الى التخلي عن الشعارات التي ترفعها، بل الانقلاب عليها كليا.
يبقى سؤال في غاية البساطة. هل هناك علاقة بين رسالة "التهدئة" التي تبعث بها "حماس" الى اسرائيل من غزة واحتمال استيلاء "حزب الله" على السلطة في لبنان بالوسائل المشروعة عن طريق تسمية رئيس للحكومة تابع للحزب؟
لا شك ان الموقف الاخير لـ"حماس" من "التهدئة" مريب جدا. ما هو مريب اكثر السعي الى استمالة مصر والحديث العلني عن ذلك. من الصعب الفصل بين "حماس" و"حزب الله" نظرا الى ان مرجعية الطرفين واحدة. ولذلك، من الضروري التعاطي بحذر شديد مع كل ما له علاقة بما يسمّى "التهدئة"، خصوصا انه لم يتغيّر شيء بين البارحة واليوم وان "حماس" امضت ما يزيد على سنتين رافضة الاعتراف بالنتائج الكارثية التي اسفرت عنها الحرب الاسرائيلية التي استهدفت القطاع واهله. ما الذي حدث بعد سنتين وبضعة ايام من وضع حدّ لتلك الحرب حتى تستخلص "حماس" الدروس المناسبة؟